من أنا

صورتي
باحث وكاتب لبناني في العلاقات الدولية والدراسات السياسية.حائز على إجازتي حقوق وعلوم سياسية من الجامعة اللبنانية ودبلومي قانون عام وعلاقات دولية, وماستر علاقات دولية ودراسات أوروبية.حاصل على منحة تفوق من الجامعة اللبنانية لنيل شهادة الدكتوراه. حالياً يتابع دراسة الدكتوراه في العلاقات الدولية في جامعة براغ الدولية.

الإتحاد الاوروبي في لبنان ومقاربة " تغيير البنى" - خطة 2011 \2013



أطلق الإتحاد الأوروبي ما يعرف ب " سياسة الجوار الأوروبي " عام 2004 وذلك بهدف " منع ظهور خطوط إنقسام إضافية بين الإتحاد الأوروبي والدول المجاروة له , والعمل بدل ذلك لتمتين الإزدهار , الإستقرار , والأمن لجميع الأطراف" . وقد كانت هذه السياسة في صلب رؤية الأمن الإستراتيجي الأوروبي كما ورد في العام 2003 , وتشمل هذه السياسة الدول التي تتشارك بحدود برية أو بحرية مع الإتحاد الأوروبي وذلك من خلال إتفاقيات ثنائية تعرف ب " خطط عمل سياسة الجوار الأوروبي" , وعليه كان لبنان إحدى هذه الدول.

يعرف الإتحاد الأوروبي نفسه  كمشروع  سلام وقوة مدنية , وقد نصت معاهدة لشبونة الاخيرة  أن الاتحاد يهدف  لنشر السلام, ولذلك يعتبر الإتحاد أن " المؤشرات الحيوية " لمنع الصراعات وحلها تتمثل في: حقوق الانسان والأقليات, الديموقراطية, شرعية السلطة, آليات حل الخلافات, دور القانون, التكامل الإجتماعي, التنمية المستدامة وإزدهار المجتمع المدني, وعليه يهدف الإتحاد إلى ما يعرف ب " تحويل الميزات البنوية للصراعات" أي معالجة "بذور العنف البنيوي" انطلاقاُ من معالجة الجذور السببية للظواهر وليس نتائجها فقط , ومثال هذه البذور ,الظلم الاجتماعي , التنمية غير المتوازنة والتمييز. 

السياسية الخارجية البنوية
هذه المقاربة للسياسة الخارجية في الإتحاد الاوروبي هي ما أصبح يعرف ب " السياسة الخارجية البنيوية " والتي تتصف بالشمولية والإستدامة والتي تعنى بالتأثير في البنى الإجتماعية , الثقافية , الإقتصادية , القانونية والسياسية ولكن الأهم هي البنية الفكرية للمجتمعات المستهدفة. أي ان هذه السياسة تركز على التدخل مبكراً للتأثير على آليات عمل البنى المختلفة وليس الإستجابة الإنفعالية لأحداث محددة, هي سياسة ليست موجهة نحو السلطة فقط بل قبلها الى الأفراد والمجمتع, مع التركيز على برامج الخاصة بتفاعل المواطنين والأفراد بين الطرفين  كبرامج التبادل الدراسي والمنح والبعثات الثقافية والنشاطات رياضية والمبادرات المدنية. وعليه, فإن هذه السياسة هي سياسة بعيدة الأمد وتستلزم موارد وجهود مضنية - لذا من الصعب لدولة واحدة أن تتبعها إلا بحال كانت قوة عظمى, وهنا تبرز أهمية الوحدة الوروبية -  ولذلك فإنه في حال نجاحها في تكريس وتثبيت المعايير والقيم والممارسات المطلوبة فإنها ستكون كفيلة وحدها بإنتاج سياسات وسلوكيات محلية تنسجم مع المصالح الاوروبية  من دون الحاجة الى التدخل المباشر والضغوط .
 وعليه يطلق الإتحاد جملة سياسات للتأثير على الظروف والبنى على المستوى المحلي, عبر الإنخراط البنَاء مع الأطراف المتصارعة ( مشاريع شراكة وتعاون ) , عبر الترغيب والجذب بمساعدات مالية مشروطة بإصلاحات في مجالات السياسة الاقتصادية , الحوكمة وحقوق الانسان , مع التشديد على اهمية الإنخراط والتعاون مع تشكيلات المجتمع المدني الذي يفترض أنه يمتاز بالصدقية , الشفافية والفعالية أكثر من المؤسسات الحكومية الملوثة بالفساد والتسلط والفشل الإداري.

خطة لبنان 2011-2013
تنبع اهمية لبنان بشكل خاص بالنسبة للإتحاد الأوروبي من عوامل عدة أبرزها , الصلات التاريخية العميقة مع بعض دول الإتحاد لا سيما فرنسا التي كانت تعتبره إحدى أهم ساحات نفوذها في المنطقة والتي لا يزال يراودها ذلك الحلم الوردي , ثانياً يعتبر لبنان مسرحاً أساسياً وحيوياً في الصراع مع إسرائيل وتتشكل داخله أقوى حركة مقاومة في المنطقة والتي يعتبرها الأوروبيون عاملاُ من عوامل التوتر والتصعيد مما يستدعي تكثيف الجهد لتغيير البنى التي تستند إليها هذه المقاومة. كذلك يعتبر بعض الاوروبيين أن لبنان ورغم سوء اوضاعه إلا ان تميزه بالتعددية وبدرجة من الحرية السياسية يمكنه من أن يشكل نموذجاُ لدول المنطقة وملهماً لها في حال إستقرار أوضاعه , بالإضافة الى ذلك تبرز قضية اللاجئين الفلسطينيين وتحدياتها المختلفة وكذلك الخوف من إنبعاث منظمات أوصولية ذات بعد "إرهابي".

إنطلاقاً من هذه الرؤية الأوروبية للجوار, وقَع لبنان خطة العمل الخاصة به في أيار 2006 قبيل العدوان الإسرائيلي , وتعتبر " الشراكة والجوار الاوروبي" بمثابة الأداة المالية لسياسة الجوار الاوروبي في لبنان وكجزء منها تم وضع الورقة الإستراتيجية للبنان 2007 – 2013  والتي حددت أهداف التعاون الاوروبي , والأولويات وسياسة الإستجابة وذلك بناء على " الاجندة السياسية للبلد الشريك والأوضاع السياسية , الإجتماعية , والاقتصادية السائدة فيه" , وبالإستناد الى هذه الإستراتيجية تم وضع " برنامج الإرشاد الوطني " الذي يقدم بالتفصيل إستجابة الإتحاد الاوروبي ويسلط الضوء على أهداف البرنامج والنتائج المتوقعة والمجالات ذات الأولوية. 

يشتمل برنامج الإرشاد الوطني على  ثلاث مجالات هي  الإصلاح السياسي , الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي , التعافي وإعادة التنشيط الاقتصادي , وقد بلغت ميزانية البرنامج 187 مليون يورو لمرحلة 2007 – 2010 , فيما  تبلغ موازنة البرنامج المقبل 150 مليون يورو على مدى ثلاث سنوات 2011 – 2013 بزيادة قدرها 7 % بالمقارنة مع الفترة السابقة من البرنامج والتي بلغت عام 2009 \ 43 مليون يورو – 2010 \ 44 مليون يورو , فيما ستبلغ عام 2011 \ 45 مليون يورو – 2012 \ 50 مليون يورو – 2013 \ 55 مليون يورو.
 أما فيما يخص توزع الميزانية على مجالات البرنامج, فقد شهد  البرنامج تعديلاً في الاولويات حيث كان مجال      "التعافي وإعادة التنشيط الاقتصادي" يحتل الصدارة بنسبة 45% من موازنة 2007 - 2010 وذلك لمعالجة أثار العدوان الاسرائيلي حينها , أما في البرنامج الجديد فتبلغ نسبته 22,7% أي ما مقداره 34 مليون يورو , وهي تشمل : التنمية المحلية والحكم المحلي ( 20 مليون يورو ) تحسين الظروف الحياتية للأجئين الفلسطينيين ( 9 مليون يورو ) , نزع الالغام وإزالة الذخائر غير المنفجرة ( 5 مليون يورو ) .

فيما يتصدر مجال الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي  رأس الأولويات بنسبة 60,7% أي 91 مليون يورو بعدما كانت يشكل 46% في برنامج 2007- 2010, وهي تنقسم بين المساعدة التقنية والتوأمة ( 18 مليون يورو) والدعم الموجه لقطاع الإصلاحات ( 73 مليون يورو ) , وتشمل خطة العمل : تحفيز النمو وزيادة التنافسية في الإقتصاد اللبناني , إصلاح القطاع التعليمي , البنية التحتية لا سيما المياه والنقل والطاقة , البيئة والتغير المناخي .
فيما يستحوذ مجال الإصلاح السياسي على نسبة 16,7% أي 25 مليون يورو  مقارنة مع نسبة 12 % في برنامج 2007 -2010 , وهو يشتمل على المحاور التالية : دعم فعالية الإدارة والقضاء ( 5 مليون يورو ) دعم تعزيز الديموقراطية وحقوق الانسان والحكم الرشيد ( 12 مليون يورو ) إصلاح القطاع الأمني ( 8 مليون يورو).

خلاصة وتساؤلات
إلا أنه يبقى طرح تساؤل أساسي وبديهي حول فعالية هذه السياسات ومستوى تأثيرها , وهي التي تواجه جملة من التحديات التي تميز الوضع اللبناني , حيث أن البنى المستهدفة ذات قابلية عالية للتكيف الى درجة القدرة على إمتصاص المساعدات وتدويرها في منظومة الفساد السياسي والإداري , ويضاف الى ذلك مخاطر الإعتداءات والتهديدات الإسرائيلية كماحدث عام 2006 والتوترات الأمنية الداخلية , وأيضاً على مستوى البنية الإجتماعية فإنها لا زالت تبدو عصية على التغيير بسبب حدة الإنقسام وطبيعته الطائفية والذي تجري تغذيته بشكل مستدام ومتواصل .
أما التحدي الأبرز فهو التأثير على البنية الفكرية - قاعدة الهرم بالنسبة لسائر البنى الأخرى- وتغيير تصورات الأفراد والجماعات, والقيم والمفاهيم والإعتقادات الخاصة بهم وذلك لسببين أساسيين: الأول, وجود مجتمعات ذات إلتزام ديني حيوي وفاعل أو مجتمعات مغلقة وأقلوية خائفة وهذه ميزات أساسية في المجتمع اللبناني. ثانياً إذا كانت الجهة المانحة تثير ريبة وشكوك ومخاوف المجتمعات المستهدفة  وهذا حال الاوروبيين مع كثير من الشرائح اللبنانية سواء لأسباب قيمية , تاريخية  أو لأسباب سياسية كالموقف الاوروبي من المقاومة والصراع العربي الإسرائيلي والحرب في أفغانستان والعراق . وعليه ستتفاوت درجة الـتأثير بإختلاف القطاعات المستهدفة وكذلك الشرائح والفئات التي يتم العمل معها وعليها وكذلك سترتبط النتيجة بمدى مساهمة وفعالية مؤسسات المجمتع المدني وتحررها من قبضة الفاعلين السياسيين , إلا أن المحصلة الأولية هي أن البنى التقليدية للنظام اللبناني لا زالت بذورها وجذورها قوية, لا سيما تلك الفاسدة منها. 

حسام محمد مطر - باحث لبناني

المثالثة المستترة بالمناصفة ... ضرورة التعديل والإصلاحات معاً


إعتاد اللبنانيون وعند لحظات الإحتكاك العصيب والأزمات المحدقة العودة الى النقاشات حول النظام والطائف والميثاق إلا أن النغمة الأكثر تداولاً هي تأكيد قوى 14 آذار لا سيما تيار المستقبل على تثبيت فكرة المناصفة بين المسلمين والمسيحيين والتي بزعمهم أقرها إتفاق الطائف, وذلك بهدف خلق توجس مسيحي من الصعود الشيعي , ولمد الحلفاء المسيحيين بشعارات خطابية أثبتت وللأسف جدواها الى حد ما . إلا أن فرضية هذه السطور هي أننا في خضم مثالثة مستترة بمناصفة وهمية مما يدعو بالنتيجة الى ضرورة تعزيز صلاحيات الرئيس من ضمن سلة إصلاحات دستورية متكاملة مترافقة مع تطبيق الإصلاحات المتعلقة بإلغاء الطائفية .

في النص والعرف الدستوري , توزعت الرئاسات الثلاث بين المذاهب الثلاث الكبرى والتي أضعفها رئاسة الجمهورية وأقواها رئاسة الحكومة  سواء بفعل النص والصلاحيات أو سواء بطريقة وصول كل منهما الى منصبه, إذ أن إنتخاب الرئيس لا بد أن يكون نتيجة توافق على عدة مستويات بمعزل عن مدى حضوره السياسي المسيحي  فيما رئيس الحكومة  يكرس نفسه من خلال زعامته للطائفة السنية بما يصعب جداً أن يتم تجاهله أو إخضاعه للضغط والشروط وهذا ما يصح أيضاً بالنسبة لرئيس البرلمان . فهل تشكل مقولة " دور رئيس الجمهورية كحكم" اساساً صالحاً لإيجاد المناصفة ؟
إن مقولة دور الحكم تعني أنه لا يمكن أن ينتخب رئيس الجمهورية إلا بناء على رضا اللأعبين الأساسيين أي الثنائي الشيعي – السني . وأنه لا يمكن للمسيحيين الإ الاعتراض عليه في أحسن الاحوال , كما يعني أنه لن ينتخب رئيس جمهورية يمثل حزب سياسي مسيحي أساسي إلا إذا كان هذا الحزب متحالفاً مع كلا القوتين الإسلاميتين او غير متخاصم معهما على الأقل, وكذلك أن لا يستفز أي طرف إقليمي أو دولي وهذا من المحال كما أثبتت تجربة ما بعد الطائف , فهل هذه مناصفة ؟ كما أدت هذه المقولة أن يدخل رئيس البرلمان والحكومة بقوة نيابية ووزارية الى السلطة تتيح لهما هامش واسع من المناورة والمبارزة السياسية فيما ينشغل الرئيس بمحاولة تحقيق التوازن بين القوى السياسية المسيحية كمن يمشي على حبل معلق في الهواء .

لقد صدق النائب جنبلاط بقوله ان " رئيس الجمهورية يحتاج الى ان يتصرف كرئيس فعلي، لان الرئيس - الحَكم ليس موجودا إلا في الملكيات الدستورية " ,وإن كان أيد تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية من داخل الطائف ، لان أي تغيير جوهري فيه سيؤدي الى مزيد من التشنج. وأيضا من علامات وهن الرئاسة هي تقييد التجديد للرئيس( على الأقل حسب النص , المهتوك ستره ) ,  مع العلم أن أغلب حالات تقييد عدد دورات الرئاسة هي واقعة  في أنظمة رئاسية أو شبه رئاسية حيث للرئيس صلاحيات تنفيذية واضحة , فيما بالمقابل يمكن أن يستمر كل من رئيسي البرلمان  والحكومة  في ذات المنصب الى أجل غير مقيد وهذا ما شهدته تجربة ما بعد الطائف أيضاً .
أما على مستوى النواب فالمناصفة هي شكلية الى حد كبير, وهذا متفق عليه وبحسب نتائج كل القوانين الانتخابية فيما بعد الطائف , ويرجح أن يبقى المسلمون أكثر تاثيراً على الصوت المسيحي نظراً الى الفروقات الديموغرافية . وهذا يدفع للحديث أيضاً عن الديموغرافية والإقتصاد والإجتماع في الواقع الراهن فهل تحكمها المناصفة أم المثالثة ؟!! وماذا عن الرعاية الإقليمية الإستراتيجية ؟!!. 

يحاول كلا الطرفين في 8 و 14 آذار تظهير قواه المسيحية وأحياناً تضخيمها ولا سيما في 14 آذار من خلال الإعلام والأمانة العامة والمنظرين , وقد يصح القول أن الضعف المسيحي يمكن أن يستتر جزئياً في لحظات الانقسام السياسي الحاد بين السنة والشيعة وذلك شأنهم شأن أي أقلية كالدروز مثلا , ولكنه حتى في هذه الحالة لا يمكن لهذه القوى الدفع بخيارات سياسية كبرى خاصة بها , بل يمكنها فقط ممارسة التعطيل في حال الإجماع المسيحي ( تعديل سن الانتخاب – الحقوق الفلسطينية ) . على أنه لا بد من الإنتباه الى أن الضعف المسيحي يزيد من إمكانية الإحتكاك السني – الشيعي لأن هذا الضعف من ِشأنه أن يزيد الميل للتنافس والإحتكاك لا سيما في بيئة إقليمية مضطربة مذهبياً .

قد يصح الى حد ما الإحتجاج على هذه القراءة من خلال إحالة هذا الضعف في الدور المسيحي الى الإنقسام السياسي المسيحي بعكس الواقع السياسي الشيعي والسني , إلا أن هذه المقولة غير كافية لنقض الجزء الأكبر من هذا الضعف. إلا أنه ينبغي التأكيد على أن أي صيغة طائفية لن تحقق ما نسعى اليه من تطوير النظام والإنتقال الى الدولة والمواطنة  حيث ستبقى هواجس التوازنات حاضرة بين المذاهب والطوائف والتي يستحيل تحقيق توازن دقيق بينها , كون هذا التوازن مرتبط بجملة من المحددات التي يصعب ضبطها أو قياسها او التحكم بها . وعليه لا بد من السعي لتغيير " البنية الفكرية " والتي تنعكس على تصورات الأفراد وفهمهم وإداراكهم لهوياتهم ومصالحهم وهذا التغيير يفترض في جزء منه إصلاحات في النص والممارسة , فالعلاقة بين النصوص والنفوس هي جدلية ومتداخلة ويصعب رسم حدود فاصلة بينهما , إذا لا بد من إصلاحات بنيوية وإن كانت متدرجة . 

لا زالت أزمة النظام اللبناني تتعمق منذ ولادة الكيان وهي لا زالت تدفع بنا جميعاً نحو الحضيض , وبما أن الإصلاحات الكبرى غالباً ما تكون وليدة أزمات كبرى فلعله إذاً وقت ملائم لمحاولة كسر هذه الحلقة المفرغة . لا يختلف اللبنانيون من حيث المبدأ وكما هو معلن على الأقل أن إلغاء الطائفية هو الحل الأمثل لمعضلة النظام , على أنه في هذه المرحلة يعبر المسيحيون تحديداً عن خوفهم وريبتهم من مسار هذا الحل , وعليه قد يكون من المناسب تقديم حل مركب يرتكز من جهة على طمأنة المسيحيين من خلال إعادة التوازن للسلطة وإشاركهم بشكل أفعل ورسمي بالقرار السياسي , ومن جهة أخرى إقرار جملة إصلاحات دستورية وإطلاق العمل بالنص الدستوري حول إلغاء الطائفية السياسية كمدخل لإلغاء الطائفية مطلقاً , وذلك كله يتم عبر الخطوات التالية :
- إنتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب , على أن يحصل الرئيس في الدورة الأولى على أكثر من نصف أصوات المقترعين وبالأكثرية النسبية في الدورة الثانية.
- تعزيز صلاحيات الرئيس التنفيذية والإجرائية مع إخضاعه للمحاسبة السياسية .
- تقليص مدة رئاسة الجمهورية الى 4 سنوات مع جواز إعادة إنتخابه مباشرة لدورة رئاسية ثانية .
- إقرار قانون إنتخاب نسبي على أساس دوائر كبرى أو لبنان دائرة واحدة .
- تعديل سن الإنتخاب وتمكين المغتربين من الإقتراع .
- تشكيل الهئية العليا لإلغاء الطائفية ومجلس الشيوخ وسائر الخطوات الدستورية المماثلة

إن إستمرار البعض بالإصرار على " المناصفة " الحالية ليس إلا من باب التعمية على حقيقة المثالثة الواقعة , وأنه إن كان يمكن تفهم موقف تيار المستقبل بهذا الشأن كونه الأكثر إستفادة من توزيع الصلاحيات الحالي بين الرئاسات الثلاث , إلا أنه من المستغرب بشدة موقف مسيحي 14 آذار من التمسك بهذه " المناصفة الموهومة " بل الأدهى إتهامهم الجنرال عون بدعم المثالثة وهو من كان الأكثر صراحة وواقعية حينما إعتبر عشية الإنتخابات النيابية الأخيرة  أن قول الحريري بأنه يدعم رئيس الجمهورية هو نكتة كبيرة، داعيا إياه إلى «أن ندعم رئاسة الجمهورية بأن نوقّع على مشروع قانون نعزز فيه صلاحيات الرئيس، وذلك في عهد رئيس الجمهورية الحالي وليس المقبل" .
                                                                                                                                               حسام مطر
15 – 11- 2010 

الحريرية السياسية: توزيع الفتات لإلتهام المائدة


نشر بالتزامن بين موقع إنباء وموقع سلاب نيوز بتاريخ 29\1\2013
حسام مطر


رغم مرور8 سنوات على رحيله إلا أننا لا زلنا نستكشف ما إختزنه الرئيس الراحل رفيق الحريري من حنكة وذكاء وقدرة على فهم المجموعات اللبنانية ومهارة في التخطيط وهندسة التغييرات. فالرجل نادراً ما رسب في حساباته المحلية، وحين فشل أثبت قدرة عالية على النقد الذاتي والتقييم ثم التكيف والبدء ببناء مسارات جديدة نحو أهدافه التي امتلك فطنة التمييز بين الإستراتيجي والتكتيكي منها.
يستدل على ذلك بتجربتين أساسيتين، الأولى فشله في مواجهة المقاومة في 1993 عبر محاولة إرسال الجيش الى الجنوب والثانية اضطراره للخروج من السلطة قبيل انتخابات العام 2000 .

في التجربة الأولى أدرك الحريري إستحالة المواجهة المباشرة مع المقاومة فكانت المساكنة التي كادت أن تنقلب إلى “زواج مؤقت” قبيل مقتله، وفي الثانية أيقن انه لن يتمكن من مواجهة خصومه السياسيين ( لحود – القيادات السنية البارزة) إلا بتحقيق فوز إنتخابي كاسح لا سيما سنياً ، بما يمكّنه من تشكيل كتلة نيابية كبرى تضمن له فرض خياراته الإقتصادية والسياسية. لطالما إعتقد كثير من الشيعة أن ممثلهم السياسي في السلطة، أي حركة أمل، قد تمكن من أن يكون شريكاً موازياً وكاملاً مع الحريرية فيما يطلق عليه “تحصيل حقوق الطائفة” المهدورة دهراً ، وقد اعتنق الدروز مذهباً مشابهاً فيما يخص الحزب التقدمي الإشتراكي. أما المسيحيون فكانوا في الأغلب الأعم خارج هذه المعادلة وإن طاولت القسمة بعض المحظيين منهم.

لم يتجاوز طموح كل من حركة أمل والحزب التقدمي الإشتراكي في هذه المكاسب إلا الحصول على ما يمكّنهما من إحكام سيطرتهما المذهبية وعزل خصومهم والحد من قدرتهم على الـتأثير داخل البنية المذهبية لكلاهما. لقد أدرك الرئيس الحريري الطموحات “المحدودة” لشركائه في السلطة، في حين كانت طموحاته هو أبعد من ذلك بكثير. فهو في حين كان يوزع الفتات على الشركاء بما يكفي قوت حساباتهم المذهبية، كان يقوم بالسيطرة الممنهجة والمضطردة على مفاصل الدولة، على عقلها وقلبها ومستقبلها.

كان الحريري متيقناً من قدرته على الإمساك بالطائفة السنية في ظل غياب منافس يعتد به من حيث القدرات المالية أو التنظيمية، كما كان يعرف قوة حاضنتيه الإقليمية والدولية التي كانت ترى فيه مستقبل لبنان المحايد، لبنان الإستجمام والأسواق، لبنان “حب الحياة”.
يبدو ان الحريري كان متأثراُ في بداياته في الحكم عام 1990 بمقولات “نهاية التاريخ” قبل أن يقتله “صراع الحضارات”.
بهذا المعنى كان زعماء الطوائف منشغلون بالسيطرة على الأطراف وضمن القطاعات الإقتصادية التقليدية كالأشغال العامة والصناديق، فيما كان الرئيس الحريري يسيطر على المركز وعلى مراكز الإقتصاد المعولم ، كقطاع المال، الإتصالات وقطاع الخدمات.

لقد كان مشروع الحريرية أبعد بكثير من الطائفة، كان مشروع السيطرة على الدولة اللبنانية بأكملها بل وهندستها وحياكتها بما يجعل تلك السيطرة مشروعاً مستداماً وبنيوياٌ. ففي حين كان ملوك الطوائف يتلهون ويغنمون من الصناديق والتعيينات والصفقات، كان الرئيس الحريري يسيطر على وسط العاصمة “سوليدير” المقدرة قيمتها حالياً ب 100 مليار دولار- وحتى على نفاياتها، يسيطر على المرافق الأساسية في المطار والميدل أيست، على الإتصالات من خلال أوجيرو، على القطاع المصرفي، على الهيئة العليا للإغاثة ومجلس الإنماء والإعمار ومعها عشرات الصناديق المماثلة التي ترتبط مباشرة برئاسة الحكومة، السيطرة على الإعلام، السيطرة على رئاسة مجلس الوزراء التي لا تخضع لأي نظام داخلي، يسيطر على وزارة المال، يؤثر ويسيطر على قطاعات تربوية واسعة، فاعل في الرياضة، يبسط نفوذه على السياسة الخارجية، ويسيطر على التركيبة الإقتصادية منهجاً ومؤسسات.

إلا أن ما يبرز نبوغ الحريري الأب هو تمكنه من فعل كل ذلك بنعومة وبأقل قدر من الجلبة والضجيج وكثير من الدعاية والآمال، على مثال ” البلد ماشي”. ولعلنا بذلك ندرك أكثر السبب الجوهري لإنزعاج  الحريري الأب من بعض النواب أمثال نجاح واكيم وزاهر الخطيب، فهؤلاء وإن إفتقدوا الـتأثير السياسي الذي يعيق مشروع الحريرية فإنهم قادرون بصخبهم الموضوعي  أن يخلقوا، على الأقل، الشك والريبة حول مشروع الحريري.

كي تنجح الحريرية، كفكرة نيوليبرالية، لا بد أن تشكل حلماً وردياً وأفقاً ينشدّ إليه الطامحون، ورؤية تجعل من المستقبل المزدهر يقيناً لا يقطعه شك، هنا لا مجال للسؤال، للإستفسار، للتوجس، للقلق أو التردد، فالحريرية كلها خير حتى ما فسد منها بإعتباره شر لا بد منه. وعليه من جملة – بل أهم- ما يجب شكر الرئيس سعد الحريري عليه هو إخراجه كل هذه المنظومة والبنية الصامتة – على شاكلة الخلايا النائمة – بالإضافة الى فرع المعلومات، الى العلن وبأبشع الصور، بل ووضعها في مواجهة باقي اللبنانيين بما فيهم المسيحيين الذين جهد والده في إستمالتهم، كونهم ـ كما كان يتفرض ـ الأقرب الى مشروعه. والشكر موصول لوزرائه، لنوابه – لا سيما الفصحاء منهم– لمستشاريه، للمديرين العامين، لإعلامه وإعلاميه، وللغاضبين له.

كان الحريري الأب يدرك أن تغييراً كالذي يطمح إليه يحتاج الى  التعامل مع عائقين مهمين: الدور السوري والمقاومة. المبدأ الذي إعتمده الحريري في مواجهة كلاهما كان واحداً، المساكنة لحين إنجاز بنية المشروع الداخلية. فيما يخص الدور السوري، تمكن الحريري من تدجين أهم مسؤولي الملف اللبناني بالمال والصفقات وعلاقاته الخارجية،  أما المقاومة فكان الحريري، بناء على التجربة والملاحظة، يدرك أن الصدام المباشر معها، يعني الفوضى والفراغ، وهما عاملان من شأنهما تهديد كل مشروع الحريري الأب.
وعليه، ما كان الحريري الأب لينساق وراء بوش في فتح البوابة اللبنانية، عبر الصدام مع المقاومة، بهدف إجبار سوريا على إغلاق النافذة العراقية. أما الحريري الإبن فإختار المسار المعاكس تماماً، أما الطريف اليوم فهو محاولته إستخدام أسلوب والده بتوزيع بعض الفتات على “المسيحيين المستقلين” و”السياديين”  كي يبقى متسلطاً عليهم بالجملة،  أي “المائدة كلها”. ولكنه نسي أن الحنكة لا تورث كالزعامة، لذا يبدو مشهد تياره المتخبط في المطبخ الإنتخابي مثيراً للضحك والشفقة معاً.

* كاتب سياسي.



                                                                                     

القاهرة 2011: " طهران 1979" أو " برلين 1989 "

نشرت هذه المقالة على موقع شباب السفير بتاريخ 8 شباط 2011 ( أي قبل 4 أيام من إسقاط مبارك)



رغم كثرة الأسئلة حول مآل الثورة المصرية الشابة إلا أن السؤال الأهم هو ليس عن مصر بل عن ما حولها, وهذا ليس إلا إنعكاساً لحقيقة أن مصر الإستراتيجية هي أكبر بكثير من مصر الجغرافيا . وعليه كان السؤال الكبير الذي يحفر عميقا في عقول الساسة وأصحاب القرار الإقليمي والدولي: هل ستتنتج الثورة المصرية نظاماً معاديا للولايات المتحدة وإسرائيل وداعماً للقضايا القومية العربية وحركاتها المقاومة ؟ أم أنها ستغير فقط وجوها وتستنسخ النظام الحالي بآخر لا تزال ملامح عمالته ووحشيته مغطاة بخطابات الإصلاح والديموقراطية؟ 

الاميركيون منهكون في جعل " القاهرة 2011 " نسخة منقحة عن برلين 1989 من خلال الإدعاء بدعم حركات الشعوب الثائرة سعياً لحقها في نظام سياسي رشيد وعادل يخدم مصالحها ويعبر عن أهدافها الثقافية والتاريخية وفي ذات الوقت إعادة إنتاج نظام جوهره خدمة مصالحها الإستراتيجية في الشرق الأوسط بعد أن تآكلت النسخة القديمة وأصبحت أعجز من أن تؤدي المطلوب منها بل حتى أصبحت عبئاً سياسياً وأخلاقياً ( على صعيد العلاقات العامة فقط)  وإقتصادياً على أسيادها. في المقابل يعيش المقهورون في الشرق الأوسط بالتحديد, اللحظة الحلم بأن تعود مصر لتكون بأكملها القلب النابض لعذاباتهم ومواجعهم ونكساتهم وهزائمهم وذلهم الذي طال, وأن تكون العضد الأقوى لمقاوماتهم التي تشارف على رسم المشهد الأخير والذي يستحال أن يكتب بدون مصر , هذه الأحلام والآمال تشابه تلك التي شعرها الكثيرون وهم يرون ذلك العجوز الرباني يطأ أرض طهران 1979 ويقض مضاجع الشرق والغرب ولا يزال. 

لقد عجز العقل الغربي عن فهم الثورة الإسلامية في إيران بإعتبارها نتيجة " قوة لا عقلانية " أي الإسلام الثوري , حيث غرق هذا الفكر لعقود في وهم سقوط الدين ونبوءة أفوله الحتمي, وقد تبدى هذا العجز إما إنكاراً للبعد الديني والعقائدي للثورة وأصر على تسميتها بالثورة الإيرانية وهو ما يسقطه أرشيف تلك الثورة وواقعها اليوم من دون أن يعني ذلك إنكار مشاركة وإسهام يساريين وقوميين فيها. والبعد الآخر لهذا العجز كان في محاولة فهم الثورة الإسلامية من خلال تفسيرات إقتصادية او إجتماعية أو سلطوية كما هي حال بعض تفسيرات اليوم للثورة المصرية , إلا انه من أدرك من الغربيين حقيقة البعد العقائدي والثقافي للثورة الإسلامية  دون أن يسعفه التنظير الغربي في فهمها وجد أن التوصيف الأنسب لها هو "المعجزة ". واليوم يعود هذا العقل الغربي الى الوقوع في فخ نقائصه , فما تشهده مصر ليس ثورة جياع أو تصارع على السلطة بل هي ثورة شرفاء أصحاب إرث ثقافي وعقائدي إسلامي وقومي والذين إستبد بهم طاغية من صنيعة الشياطين, من دون أن يعني ذلك غياب المؤثر الإقتصادي ولكنه ليس المحدد وكذلك من دون إنكار وجود بعض المتسلقين ولكنهم ليسوا بذور هذه الثورة ومناضلوها بل جزء من عفن الإستبداد لا اكثر. وعليه, اليوم لا يثور المصريون من أجل مصر فقط بل قبل ذلك هم يثورون للبنان وفلسطين والعراق والسودان ولكل جرح عربي كان للنظام المصري فيه طعنة خنجر أو بالأحرى طعنات.

من دون شك أن للثورة المصرية أسبابها وديناميكياتها الداخلية , إلا أنه عند العودة إلى سؤال المقدمة لا بد من التأكيد على الظروف الإقليمية لهذا الحراك, التونسي وثم المصري. لقد تدحرجت هزائم المشروع الغربي الإسرائيلي في المنطقة وتحديدا من العام 2000 في جنوب لبنان وما تلاه لاحقاً من نكسات عميقة بعد حروب السنوات العشر الماضية والتي تجلت نتائجها في تراجع النفوذ الاميركي اخيراً في العراق ولبنان وغزة, مصحوبة بالمأزق الإقتصادي الغربي وتراجع قدرة الهيمنة الدولية والإقليمية للولايات المتحدة. وعليه أنتجت هذه التراجعات فراغاً ترفضه السياسة وحركة التاريخ, إستحوذ عليه المربع  الايراني- التركي – السوري – حركات مقاومة الشعوب. إن هذا التغير الإستراتيجي في تركيبة المنطقة وتوازناتها إنعكس تدهوراً في الوزن السياسي لقوى الإستبداد العربي الموالية لواشنطن والذي تجلى في المرحلة الأولى على المستوى الإقليمي ومن ثم داخلياً على صعيد الأنظمة.

إن هذا الفهم لما يجري وجرى من حراك عربي داخلي يؤدي الى إستخلاص نتيجتين أساسيتين: إلى التأكيد أن المشهد المصري المقبل لن يكون "برلين 1989" كما تشتهي الولايات المتحدة, فالثورة المصرية هي ليست فقط رفضاً لنظام مبارك بل لسياساته الأميركية بالدرجة الأولى , وثانيا يمكن توقع أن تتوسع حركة النهوض والتغيير في المنطقة وبما يتناسب وحدود الخصوصية بين بلد وآخر, قد يستلزم تحريك الحجر الكبير وقتاً ولكن حينما يبدأ بالتدحرج فإنه يأخذ بطريقه الكثير من الأحجار الصغيرة. وعليه من حق بل واجب كل أبناء المنطقة أن يكونوا سنداً لهذا الحراك والتحلل من مقولات إحترام "السيادة" الزائفة, لقد طور الغرب مفهوم السيادة وحاكه مراراً بما يلائم مصالحه وأهدافه فأنتج أطر وحدوية عابرة للدولة الوطنية فيما بعض منا لا زال يتعبد ذلك المفهوم كي يزيدنا فرقة ووهن, فلا سيادة مطلقة إلا للحق والحرية والعدالة. 

إن كل هذا التفاؤل والأمل لا ينفي أن التحدي لا زال في بداياته وأنه على هذه الصحوات أن تنجح في نقل الفعل الثوري الى فعل مؤسساتي, أي أن تنجح في تحويل التصورات الى وقائع, بمرونة تحفظ القيم وليس على حسابها. لا تحتاج مصر اليوم الى "حكماء" يجالسون عمر سليمان بل الى مخلصين, وللإيضاح يروى انه أيام الثورة في إيران ركب احد المعممين(رجل دين) سيارة أجرة فإلتفت الى صورة للإمام الخميني معلقة قرب السائق, فسأل الشيخ السائق مستنكراً : لماذا حينما تسمعون إسم الخميني تصلون على النبي وآله ثلاث مرات وحينما تسمعون إسم الرسول محمد تصلون مرة واحدة فقط , فأجابه السائق عندما تنتصر الثورة سنتوقف تماماُعن ذكر تلك الصلوات الثلاث عند ذكر إسم الإمام الخميني. ما تحتاجه مصر اليوم هو شباب كهذا السائق وليس أمثال ذلك المعمم وإن تعددت ألقابهم.

البرادعي... الى وكالة الطاقة الشعبية؟!!


 نشرت هذه المقالة على موقع شباب السفير بتاريخ 1\3\2010 ( أي قبل ثورة 25 يناير بسنة تقريباً)




شكلت عودة الدكتور محمد البرادعي إلى مصر حدثاً بحد ذاتها لدرجة يمكن تشبيها كحجر رمي في بحيرة راكدة حجبت الطحالب العائمة على سطحها الشمس والهواء عن قاطنيها فإهتز الماء فشق بصيص من النور طريقه الى قلوب وعقول المضطهدين الوالهين للحظة حرية. تزامنت عودة البرادعي الصارخة مع ذكرى الثورة الإيرانية الواحدة والثلاثين وبالرغم من الفروقات الشاسعة بين الحدثين إلا أنهما وكما سائر الحركات الشعبية المنتفضة بوجه الاستبداد تنطلقان من فرضية أساسية هي أن الأنظمة الإستبدادية ومهما إختلفت في الصيغ والقوة وآليات القمع فإنها لا تتجاوز حتمية الإنهيار والإندثار,إذ ليست شدة وصلابة وهمجية الأنظمة الإستبدادية أمراً إستثانياً ولكن كذلك. سقوطها. في شباط 1979 حط الإمام الخميني في مطار طهران معلناً نهاية الشاه , فهل نزل البرادعي في شباط 2010 على أرض مطار القاهرة مطلقاً بداية سقوط الفرعون؟

الفرضية التي ينطلق منها السؤال هي أنه بمعزل عن نتيجة تحرك البرادعي إلا انه أعاد إطلاق ديناميكية العمل الشعبي والسياسي بعد طول ركود , وهذا الحراك الذي يعتبر شرطاً ضرورياً في عملية التغيير السياسي يستفيد من عدة شروط مساعدة, منها ما هو مرتبط بشخصية البرادعي وموقعه الداخلي والدولي ومنها ما هو مرتبط بالسلطة المصرية التي هرمت من الداخل وتآكلت من الخارج لا سيما بعد المجزرة في غزة , ومنها ما هو مرتبط بتطور الإهتمام الدولي بحقوق الإنسان والحريات والديمقراطية لا سيما من المنظمات الدولية غير الحكومية بالإضافة الى ما تتيحه الثورة التقنية لا سيما الإنترنت من قدرة على الرصد والنشر والحشد والتعبئة..

يرتكز الإستبداد إلى الترهيب والتضليل وليس الترغيب لخلق القاعدة النفسية للرضوخ المرتكزة على كل من دعامتي الخوف واليأس. وبالتالي فإن نجاح أي حركة شعبية إعتراضية يرتبط بالقدرة الى إسقاط هاتين الدعامتين, إذأ المستبد ليس موجوداً في الخارج كحقيقة واقعة إلا بقدر ما يكون كذلك في داخل الفرد. كانت أحداث الأيام القليلة بعد عودة البرادعي مؤشراً على إهتزاز هاتين الدعامتين بدءً من الإستقبال الشعبي في المطار والتجمعات المؤيدة للبرادعي على مواقع الانترنت والتأييد الواسع من نخب المعارضة والإعلام والفكر حيث أمكن تلمس تراجع مستوى الخوف والإستعداد للمواجهة وإن بطرق سلمية مدنية , بموازاة الأمل بالتغيير وخلق واقع جديد يحترم الشعب وحقوقه وطموحاته . بإختصار كانت عودة البرادعي بمثابة الصدمة التي ثقبت حلقة الخوف واليأس المفرغة , مما يمكن ان يسمح بإطلاق وتحرير الحراك الشعبي بإتجاه التغيير الديمقراطي.

من البديهي أن نتيجة المواجهة بين أي سلطة مستبدة والمعارضة مرتبطة بشكل أساسي بقدرة كل منهما على إستمالة وتعبئة القوة الشعبية ( او الرأي العام إذا صح التعبير), من هذه الزاوية يمكن القول أنه في الإنظمة الديمقراطية يحتاج الشعب الى السلطة لتحقيق أهدافه ورفاهيته أما في الأنظمة الإستبدادية فالسلطة تحتاج إلى الشعب من باب تطويعه وتحييده حيث أن إستعمال القوة غير ممكن دائما, إذ ان " القوة الشمولية تكون قوية فقط إذا انتفت الحاجة لإستعمالها غالبا , اما اذا اصبحت القوة الشمولية واجبة الإستعمال دائماً بوجه الشعب فمن غير المرجح أن تبقى قوية لفترة طويلة " (كارل دويتش). إن جزءاً أساسياً من هشاشة السلطة المصرية ناتج عن الإسراف في السلوك القمعي البوليسي وإستعمال القوة لضرب المعارضة لا سيما جماعة الاخوان المسلمين , فهل ستواجه سلطة مبارك حركة البرادعي بذات الأسلوب أو بالأحرى هل يمكنها أن تستخدم ذات الاسلوب؟.

يمكن القول أن لشخصية البرداعي أثر أساسي في الأسلوب الذي ستنتهجه السلطة لمواجهة هذا التحرك المستجد , حيث أن البرادعي شخصية يكن لها المصريون إحتراماً كبيراً وهي أحد نماذج الإعتزاز والفخر القومي الصري لا سيما بعد نيله جائزة نوبل للسلام , وعلى المستوى الدولي هو شخصية ذات صدقية معتبرة نظراً لأداه في رئاسة الوكالة الدولية للطاقة النووية , وعليه يمكن الى حد كبير إستبعاد أن تلجأ السلطة إلى مواجهة تحرك البرادعي كما واجهت الإخوان المسلمين , مما يفتح الطريق أمام خيارات أخرى بدء من تجاهله أو التضييق عليه وصولاً إلى منحه هامش محدود من الحركة من خلال تعديل الدستور بما يسمح له بالمشاركة مع ضبط أكبر للعملية الإنتخابية بما يمًكن السلطة من تجميل صورتها وإستيعاب الفورة الشعبية , لكن السؤال أنه هل يمكن لهذه السلطة التي تمرست القمع أن تكون بهذا القدر من البراغماتية ؟!

على أنه لا ينبغي تحميل البرادعي أكثر مما يحتمل , فهو يظهر حرصاً على تجنب التعرض للرئيس مبارك ويركز إنتقاداته بذكاء على النظام , بالإضافة الى التشديد في خطابه على العمل السلمي المدني والتغييري الهادىء والواقعي بعيداً عن عبارات الثورة والصدام والإطاحة والمواجهة , إلى درجة أن مطالبته بالتغيير وجهها غالباً إلى السلطة نفسها على مثال حديث " متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم إحراراً " . وقد صرح البرادعي أنه سيعمل بدايةً من أجل التغيير وليس خوض الإنتخابات وهذا بديهي, وأن هذا التغيير قد يحتاج الى وقت وهذا واقعي , مع الملاحظة أنه لا يقدم نفسه قائداً ثورياً أو مخلصاً بل هو بالأحرى يتحرك كمفكر وأكاديمي فيما يظهر أن القوى الشعبية تريد منه عكس ذلك تماماً , وهذا على ما يبدو رهن بتطور تجربته ورؤيته للواقع الداخلي وحجم الالتفاف الشعبي وكذلك طبيعة ردة فعل السلطة , بما يمكن أن يجعله يتحول في مقاربة مسألة السعي لتحقيق الحرية الى قاعدة " لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً " كما قال الإمام علي.

لقد أثبتت تجارب حركات المعارضة في الغرب فعالية العمل المدني والاحتجاج السلمي في تغيير الأنظمة الإستبدادية , حتى إن إحدى المؤسسات البحثية الأميركية ( ألبرت إينستاين) أحصت حوالي 200 أسلوب للإحتجاج السلمي وزعتها ضمن 3 مجموعات أساسية , الإعتراض والإقناع  (التظاهرات,المواكب الرمزية) عدم التعاون المقاطعة – الإضراب), والتدخل (الحكومة الموازية). ( الإستيلاء السلمي
 إلا أن مدى نجاح حركة التغيير السلمي ترتبط بمدى تفاعل القوى الشعبية وإحساسها بالثقة بالنفس والقدرة على تقرير مصيرها ومن جهة ثانية تقوية مؤسسات المجتمع المدني المستقلة وكذلك وضع خطة إسترايجية شاملة حكيمة للتغيير وتطبيقها بفاعلية وهذا كله يتطلب في النموذج المصري توحد أقطاب المعارضة لا سيما الاخوان المسلمين حول جهود البرادعي. فهل سينجح هذا النموذج السلمي المدني في مصر والعالم العربي ؟!!

بالعودة إلى سؤال المقدمة حول أثر تحرك الدكتور البرادعي على النظام المصري , الخلاصة أنه بمعزل عن المدى الذي سيبلغه هذا التحرك إلا أنه قد أسس عملياً لمرحلة جديدة سيكون فيها النظام على المحك فعلياً . لقد تجاوز النظام المصري ذروته ( كمثال , 40% تحت خط الفقر – المرتبة 132 عالميا في مستوى التقدم البشري) وآن للشعب أن يحكم وليس جماعة " إحنا إدلعنا على إيامك يا ريس" كما كتب أحد رؤساء التحرير في إفتتاحية إحدى الصحف المصرية بمناسبة عيد ميلاد الرئيس مبارك . ضعوا عيونكم جيداً على مصر... إنها تستيقظ