نشرت هذه المقالة في صحيفة الاخبار اللبنانية في العدد ١٧٣٤ بتاريخ ١٦حزيران ٢٠١٢
شكلت سنوات ما بعد الحرب الباردة تحدّياً جاداً للنظرية الواقعية في العلاقات الدولية، لا سيما لمفهومها المركزي حول «توازن القوى»، إذ لم تبادر الدول الكبرى ــ المستوى الثاني في النظام الدولي الاحادي ــ الى بناء توازن قوى تقليدي «صلب» بوجه القوة الاحادية الاميركية، كإنشاء الأحلاف العسكرية وإطلاق سباق تسلح. تتعدد التفسيرات المتعلقة بهذه الظاهرة، منها: التفوّق الاميركي العصي على التوازن، وعجز روسيا والصين تحديداً عن بناء تحالف دولي مواز لواشنطن، واستفادة بعض القوى الكبرى من الاحادية الاميركية والالتحاق بها بدل مواجهتها، والعولمة والتداخل الاقتصادي المتبادل بين القوة الاحادية والقوى الكبرى، وأخيراً بسبب غياب الهاجس الامني ــ السيادي المباشر عند القوى الكبرى وتوازن الردع النووي والاعتقاد بفاعلية الضوابط الداخلية للنزعة الامبريالية الاميركية، إذ إنّ الإمبراطورية الأميركية ــ وخلافاً لسابقاتها ــ تسعى للتحكم السياسي بالقوى الاخرى ولكن بوسائل غير مباشرة (قوة شبه إمبريالية). أي أنّ الدول الكبرى لم تقلق بشأن تعرض وجودها المادي ــ الإقليمي للخطر أو الغزو، وذلك عكس تجربة القوى الأوروبية ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر (ت. بول، التوازن الناعم في عصر التفوق الأميركي، مجلة الأمن القومي، 2005).
إلا أنّ حسابات القوى الكبرى وتقديرها لواقع النظام الدولي ودور الولايات المتحدة فيه شهدت تغيّراً جوهرياً في ظل حكم بوش الابن، لا سيما مع غزو العراق. ففي ظلّ سياسات بوش التوسعية والعدوانية لم تعد الولايات المتحدة بالنسبة للقوى الكبرى «قوة ستاتيكو» بل بدت كقوة تسعى لإعادة تشكيل النظام الدولي والأنظمة الإقليمية بشكل يعمق آحاديتها، ويتجاهل بالمطلق مصالح القوى الدولية من خلال تعريف المصالح القومية الاميركية بشكل فضفاض وآحادي، وهو ما أطلق عليه في «فورين أفيرز» الكاتب جون أيكنبري «الاستراتيجية الكبرى للإمبريالية الجديدة». بالنسبة للصين وروسيا والدول الصاعدة، كان يمكن لنجاح المغامرة العراقية ان يكرس بداية عصر أميركي قائم على أمبريالية منفلتة، مذهب عسكري تدخلي ــ وقائي، وتفرد تام في الخيارات الدولية، وهو ما كان سيثبت سطوة واشنطن حول العالم على حساب المصالح القومية للقوى الكبرى. لقد سعت إدارة بوش الى تغيير القانون الدولي برمته كما يقول تشومسكي، وذلك بناء على اعتقاد بعض الصقور الاميركيين أنّ «القانون مذهب حي، منظومة حية من المبادئ تُعدل باستمرار عن طريق الممارسة الدولية»، أي الممارسة الاميركية فقط، (طموحات إمبريالية، صفحة 66).
بناء على ما تقدم، تتبنى القوى الكبرى، لا سيما الصين وروسيا، وبشكل متصاعد استراتيجية «التوازن الناعم» بوجه واشنطن حتى بعد وصول أوباما الى السلطة، وهو ما برز جلياً في شأن الأزمة السورية المحتدمة. ويمكن وصف «التوازن الناعم» بأنّه «الأفعال التي لا تهدف مباشرة إلى تحدي التفوق العسكري الاميركي، بل استعمال ادوات غير عسكرية لتأخير، إحباط، وتقويض السياسات العسكرية الاحادية للولايات المتحدة، وذلك عبر استخدام المؤسسات الدولية، الإمكانات الاقتصادية والترتيبات الدبلوماسية». ورغم أن هذا التوازن لن يمنع واشنطن من تحقيق بعض أهدافها العسكرية إلا أنّه سيجعل تحققها ذا كلفة أعلى، ويزيد الهوة بينها وبين بعض القوة الكبرى بل وربما ينتج تحوّلاً في ميزان القوى الاقتصادية بخلاف مصلحة الولايات المتحدة (روبرت بايب، التوازن الناعم بوجه الولايات المتحدة، 2005).
كرس التعاطي الأميركي في الأزمة السورية أنّ اوباما لم يغيّر إلا وسائله في تحقيق الأهداف الأميركية ذاتها في الشرق الاوسط. فالتراجع الأميركي أجبر واشنطن على نقل جزء من دورها الى ثنائية الخليج ــ تركيا، لمواجهة طهران وحلفائها، وذلك كنوع من تعزيز توازن القوى في الشرق الاوسط من خلال أدوات إقليمية بعد الخسارة الأميركية في العراق وقبلها في لبنان. والأهم أنّ الأزمة السورية وما سبقها، جعلت الصين وروسيا تتيقنان بأنّ واشنطن ليست مستعدة بعد للاعتراف بمصالحهما الحيوية في المنطقة، وهو ما حاول أوباما جاهداً أن يروّج له في بداية ولايته، حتى أنّ روسيا والصين وافقتا على الجولة الأخيرة من العقوبات الدولية بحق إيران في مجلس الامن. وإن كانت واشنطن تتلطى خلف حلفائها الاقليميين فلن يكون الرد الروسي ــ الصيني إلا تثبيت نقاط ارتكازهما الاستراتيجية على لوحة الشطرنج الشرق أوسطية بالتحديد في سوريا وإيران.
فالموقف الروسي ــ الصيني من الأزمة السورية يمكن ضبطه على إيقاع «التوازن الناعم» بوجه واشنطن، وذلك عبر التحالف في مجلس الامن واستخدام حق الفيتو، بناء تفاهم واسع حول الازمة كما في قمة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، الدعم اللوجيتسي والنوعي العسكري للقوات السورية، وتأمين تغطية اقتصادية لسوريا المحاصرة. وما ينطبق على روسيا والصين يتجاوزهما ليشمل البرازيل والهند ولكن بمستوى أقل جرأة، فالهند أعلنت منذ أيام ضرورة وقف تمويل المجموعات المسلحة في سوريا، والصين وروسيا على موقفهما الثابت، لا للتدخل العسكري في سوريا، لا للعقوبات الاقتصادية، لا لتغيير الأنظمة بالقوة الخارجية، ولا سبيل للحل إلا بتسوية سياسية، وضمن هذه الثوابت سيناور الطرفان بما تقتضيه الحنكة والضرورة والوقائع الميدانية.
إلا أنّ الأهم هو السؤال حول إمكانية انقلاب التوازن الناعم الى توازن صلب. يرجح كلّ من بايب وبول أن تشتد آليات «التوازن الناعم» كلما ارتفعت العدوانية الأحادية الأميركية، بل والأخطر انّه يمكن ان ينقلب الى «توازن صلب» بوجه واشنطن، فمن الوارد جداً أن يمهد «التوازن الناعم» الطريق نحو «التوازن الصلب» وخاصة كلما بدت القوة الآحادية ورغم عدائيتها، أكثر ضعفاً وتراجعاً. مع تقدم مسار الأزمة السورية وانسداد أفق التسوية وارتفاع مستوى العنف، تبدو روسيا أكثر إصراراً على إرسال رسائل مشفرة للأميركيين بأنّها قد تمضي نحو تكريس توازن قوى «صلب» في المنطقة، كتسليم سوريا شحنات من أنظمة الدفاع الصاروخي أرض ــ جو وأرض ــ بحر المتطورة، تحركات البحرية الروسية تجاه الشواطئ السورية، وأخيراً الحديث عن إنزال قوات خاصة روسية في سوريا. ومما يعزز هذا المؤشر هو تشابه هذه الرسائل ما مع جرى في الملف الإيراني من خلال موقف روسيا في المفاوضات النووية، استمرار نقل السلاح الروسي النوعي إلى الجمهورية الإسلامية وتصريحات موسكو بأنّ قضية إيران هي جزء من الأمن القومي الروسي. لكن الى أي مستوى سيتطور التوازن الناعم الروسي ــ الصيني بوجه واشنطن؟ يمكن القول إنّ الطقس غائم، ولكن هل ستمطر؟
حسام مطر
* باحث في العلاقات الدولية
شكلت سنوات ما بعد الحرب الباردة تحدّياً جاداً للنظرية الواقعية في العلاقات الدولية، لا سيما لمفهومها المركزي حول «توازن القوى»، إذ لم تبادر الدول الكبرى ــ المستوى الثاني في النظام الدولي الاحادي ــ الى بناء توازن قوى تقليدي «صلب» بوجه القوة الاحادية الاميركية، كإنشاء الأحلاف العسكرية وإطلاق سباق تسلح. تتعدد التفسيرات المتعلقة بهذه الظاهرة، منها: التفوّق الاميركي العصي على التوازن، وعجز روسيا والصين تحديداً عن بناء تحالف دولي مواز لواشنطن، واستفادة بعض القوى الكبرى من الاحادية الاميركية والالتحاق بها بدل مواجهتها، والعولمة والتداخل الاقتصادي المتبادل بين القوة الاحادية والقوى الكبرى، وأخيراً بسبب غياب الهاجس الامني ــ السيادي المباشر عند القوى الكبرى وتوازن الردع النووي والاعتقاد بفاعلية الضوابط الداخلية للنزعة الامبريالية الاميركية، إذ إنّ الإمبراطورية الأميركية ــ وخلافاً لسابقاتها ــ تسعى للتحكم السياسي بالقوى الاخرى ولكن بوسائل غير مباشرة (قوة شبه إمبريالية). أي أنّ الدول الكبرى لم تقلق بشأن تعرض وجودها المادي ــ الإقليمي للخطر أو الغزو، وذلك عكس تجربة القوى الأوروبية ما بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر (ت. بول، التوازن الناعم في عصر التفوق الأميركي، مجلة الأمن القومي، 2005).
إلا أنّ حسابات القوى الكبرى وتقديرها لواقع النظام الدولي ودور الولايات المتحدة فيه شهدت تغيّراً جوهرياً في ظل حكم بوش الابن، لا سيما مع غزو العراق. ففي ظلّ سياسات بوش التوسعية والعدوانية لم تعد الولايات المتحدة بالنسبة للقوى الكبرى «قوة ستاتيكو» بل بدت كقوة تسعى لإعادة تشكيل النظام الدولي والأنظمة الإقليمية بشكل يعمق آحاديتها، ويتجاهل بالمطلق مصالح القوى الدولية من خلال تعريف المصالح القومية الاميركية بشكل فضفاض وآحادي، وهو ما أطلق عليه في «فورين أفيرز» الكاتب جون أيكنبري «الاستراتيجية الكبرى للإمبريالية الجديدة». بالنسبة للصين وروسيا والدول الصاعدة، كان يمكن لنجاح المغامرة العراقية ان يكرس بداية عصر أميركي قائم على أمبريالية منفلتة، مذهب عسكري تدخلي ــ وقائي، وتفرد تام في الخيارات الدولية، وهو ما كان سيثبت سطوة واشنطن حول العالم على حساب المصالح القومية للقوى الكبرى. لقد سعت إدارة بوش الى تغيير القانون الدولي برمته كما يقول تشومسكي، وذلك بناء على اعتقاد بعض الصقور الاميركيين أنّ «القانون مذهب حي، منظومة حية من المبادئ تُعدل باستمرار عن طريق الممارسة الدولية»، أي الممارسة الاميركية فقط، (طموحات إمبريالية، صفحة 66).
بناء على ما تقدم، تتبنى القوى الكبرى، لا سيما الصين وروسيا، وبشكل متصاعد استراتيجية «التوازن الناعم» بوجه واشنطن حتى بعد وصول أوباما الى السلطة، وهو ما برز جلياً في شأن الأزمة السورية المحتدمة. ويمكن وصف «التوازن الناعم» بأنّه «الأفعال التي لا تهدف مباشرة إلى تحدي التفوق العسكري الاميركي، بل استعمال ادوات غير عسكرية لتأخير، إحباط، وتقويض السياسات العسكرية الاحادية للولايات المتحدة، وذلك عبر استخدام المؤسسات الدولية، الإمكانات الاقتصادية والترتيبات الدبلوماسية». ورغم أن هذا التوازن لن يمنع واشنطن من تحقيق بعض أهدافها العسكرية إلا أنّه سيجعل تحققها ذا كلفة أعلى، ويزيد الهوة بينها وبين بعض القوة الكبرى بل وربما ينتج تحوّلاً في ميزان القوى الاقتصادية بخلاف مصلحة الولايات المتحدة (روبرت بايب، التوازن الناعم بوجه الولايات المتحدة، 2005).
كرس التعاطي الأميركي في الأزمة السورية أنّ اوباما لم يغيّر إلا وسائله في تحقيق الأهداف الأميركية ذاتها في الشرق الاوسط. فالتراجع الأميركي أجبر واشنطن على نقل جزء من دورها الى ثنائية الخليج ــ تركيا، لمواجهة طهران وحلفائها، وذلك كنوع من تعزيز توازن القوى في الشرق الاوسط من خلال أدوات إقليمية بعد الخسارة الأميركية في العراق وقبلها في لبنان. والأهم أنّ الأزمة السورية وما سبقها، جعلت الصين وروسيا تتيقنان بأنّ واشنطن ليست مستعدة بعد للاعتراف بمصالحهما الحيوية في المنطقة، وهو ما حاول أوباما جاهداً أن يروّج له في بداية ولايته، حتى أنّ روسيا والصين وافقتا على الجولة الأخيرة من العقوبات الدولية بحق إيران في مجلس الامن. وإن كانت واشنطن تتلطى خلف حلفائها الاقليميين فلن يكون الرد الروسي ــ الصيني إلا تثبيت نقاط ارتكازهما الاستراتيجية على لوحة الشطرنج الشرق أوسطية بالتحديد في سوريا وإيران.
فالموقف الروسي ــ الصيني من الأزمة السورية يمكن ضبطه على إيقاع «التوازن الناعم» بوجه واشنطن، وذلك عبر التحالف في مجلس الامن واستخدام حق الفيتو، بناء تفاهم واسع حول الازمة كما في قمة البريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، الدعم اللوجيتسي والنوعي العسكري للقوات السورية، وتأمين تغطية اقتصادية لسوريا المحاصرة. وما ينطبق على روسيا والصين يتجاوزهما ليشمل البرازيل والهند ولكن بمستوى أقل جرأة، فالهند أعلنت منذ أيام ضرورة وقف تمويل المجموعات المسلحة في سوريا، والصين وروسيا على موقفهما الثابت، لا للتدخل العسكري في سوريا، لا للعقوبات الاقتصادية، لا لتغيير الأنظمة بالقوة الخارجية، ولا سبيل للحل إلا بتسوية سياسية، وضمن هذه الثوابت سيناور الطرفان بما تقتضيه الحنكة والضرورة والوقائع الميدانية.
إلا أنّ الأهم هو السؤال حول إمكانية انقلاب التوازن الناعم الى توازن صلب. يرجح كلّ من بايب وبول أن تشتد آليات «التوازن الناعم» كلما ارتفعت العدوانية الأحادية الأميركية، بل والأخطر انّه يمكن ان ينقلب الى «توازن صلب» بوجه واشنطن، فمن الوارد جداً أن يمهد «التوازن الناعم» الطريق نحو «التوازن الصلب» وخاصة كلما بدت القوة الآحادية ورغم عدائيتها، أكثر ضعفاً وتراجعاً. مع تقدم مسار الأزمة السورية وانسداد أفق التسوية وارتفاع مستوى العنف، تبدو روسيا أكثر إصراراً على إرسال رسائل مشفرة للأميركيين بأنّها قد تمضي نحو تكريس توازن قوى «صلب» في المنطقة، كتسليم سوريا شحنات من أنظمة الدفاع الصاروخي أرض ــ جو وأرض ــ بحر المتطورة، تحركات البحرية الروسية تجاه الشواطئ السورية، وأخيراً الحديث عن إنزال قوات خاصة روسية في سوريا. ومما يعزز هذا المؤشر هو تشابه هذه الرسائل ما مع جرى في الملف الإيراني من خلال موقف روسيا في المفاوضات النووية، استمرار نقل السلاح الروسي النوعي إلى الجمهورية الإسلامية وتصريحات موسكو بأنّ قضية إيران هي جزء من الأمن القومي الروسي. لكن الى أي مستوى سيتطور التوازن الناعم الروسي ــ الصيني بوجه واشنطن؟ يمكن القول إنّ الطقس غائم، ولكن هل ستمطر؟
حسام مطر
* باحث في العلاقات الدولية