من أنا

صورتي
باحث وكاتب لبناني في العلاقات الدولية والدراسات السياسية.حائز على إجازتي حقوق وعلوم سياسية من الجامعة اللبنانية ودبلومي قانون عام وعلاقات دولية, وماستر علاقات دولية ودراسات أوروبية.حاصل على منحة تفوق من الجامعة اللبنانية لنيل شهادة الدكتوراه. حالياً يتابع دراسة الدكتوراه في العلاقات الدولية في جامعة براغ الدولية.

هل يخشى الغرب برنامج إيران النووي أم النبوي؟

 نشرت هذه المقالة على موقع الإنتقاد بتاريخ 28\2\2012

ما زال برنامج إيران النووي يثير جملة من التساؤلات والاستفهامات الكبرى لا سيما حول طبيعته، هل هو عسكري كما تدّعي "إسرائيل" والولايات المتحدة، أم أنه ذو طابع سلمي كما تؤكد طهران لا سيما بعد فتوى قائد الثورة الإمام السيد علي الخامنئي. إنطلاقاً من هذا السجال تظهر الإشكالية التالية، إن لم يكن برنامج إيران النووي عسكرياً، فكيف يمكن فهم تحمل طهران كل هذه الاعباء كثمن له؟ إن الإجابة عن هذه الإشكالية يمكن أن تعالَج من خلال مقاربتين تؤدي كل منهما الى نتيجة مخالفة للأخرى.

إن الفهم الغربي إجمالاً للملف النووي الايراني ينطلق من "مقاربة عقلانية" تؤدي الى التشكيك في الموقف الإيراني المعلن حول سلمية ملفها النووي. إلا أنه إن تمت مقاربة هذا الملف من منظار مختلف يستند الى ارتباط الملف النووي بالهوية القومية والدينية للجمهورية الاسلامية لأصبح من الممكن الوصول الى فهم أفضل للتصميم الإيراني على امتلاك قدرات نووية سلمية رغم التكاليف الجمة المترتبة على ذلك.

ينطلق أصحاب المنظار العقلاني من مسارين اقتصادي وأمني، فمن الناحية الاقتصادية يرفض هؤلاء مقولة إن حصول إيران على الطاقة النووية السلمية سيؤمّن لها ميزات اقتصادية أساسية لا سيما في مجال توليد الطاقة والأبحاث العلمية المتقدمة، ويردون بأن إيران دولة غنية بالموارد النفطية سواء النفط أو الغاز الطبيعي، ومن ناحية أخرى فإن العقوبات الاقتصادية الدولية والأحادية المتزايدة على إيران وما تتركه من أضرار على قطاع الطاقة بشكل أساسي هي أكبر بكثير من الميزات الاقتصادية المتوقعة من البرنامج السلمي.

أما من الناحية العسكرية وبحسب الفهم الواقعي، أي مدرسة القوة، فإن الغاية من امتلاك قدرات نووية هي إما زيادة القوة أو الأمن من خلال تأمين قدرة ردع إستراتيجية. إلا أن الوقائع تظهر أن هذا البرنامج النووي لا يزيد ايران أمناً، بل العكس تماما نظراً لما يستجلبه من تهديدات اميركية ـ إسرائيلية جديّة وتسلح جنوني في محيطها الإقليمي، وبالتالي فإن فرضية سلمية الملف النووي تسقط باعتبارها فرضية غير واقعية ولا عقلانية ما يستدعي الاحتمال بالطبيعة العسكرية للبرنامج النووي، وهو ما يشجع طهران على القبول بكل هذه الأعباء والتكاليف.



إلا أنه رغم أهمية نظرية "الخيار العقلاني" وقدرتها على تفسير جملة من الظواهر والقرارات الاجتماعية والفردية إلا أنها محدودة بجملة من القيود والفراغات التي تضعف قوتها التفسيرية، وأبرز هذه القيود العقائد والقيم التي تنتج تصورات ومقاييس مختلفة حول التكاليف والأرباح. وعليه وباعتبار البعد الديني والتاريخي للجمهورية الإسلامية فإنه لا بد من محاولة فهم برنامجها النووي انطلاقاً من مقاربة قيمية تستند الى الهوية التاريخية والدينية لإيران، وتشتمل هذه المقاربة على ثلاثة مفاهيم، الاستقلال، العدالة، والمقاومة. لقد تجذرت هذه المفاهيم في الخطاب والفكر الايراني لا سيما منذ انتصار الثورة الاسلامية عام 1979، وهذا التجذر يمكن ان يفسر الثبات النسبي للسياسة النووية في كافة العهود الإصلاحية والمحافظة على السواء.

فيما يخص مفهوم الاستقلال فإنه ذو بعد تاريخي، قومي وديني، فإيران أو ما كان يعرف بالإمبراطورية الفارسية قد اتصفت "بتاريخ حضاري مجيد" أنتج كماً هائلاً من الكبرياء القومي، إلا أنها عانت من الغزاة الأتراك والمغول ما أنتج عندها "عقدة الضحية"، بالإضافة الى ذلك كان هناك تدخلات واحتلالات القوى الغربية، لا سيما روسيا وبريطانيا ولاحقاً الولايات المتحدة. هذه المكونات الثلاثة أفرزت حساسية ايرانية عالية تجاه مفهوم الاستقلال لا سيما بعد انتصار الثورة وما طرحته من ضرورة تحقيق الاستقلال ضمن سياسة "لا شرقية ولا غربية" وعدم الخضوع والتبعية للقوى الكبرى وتحقيق الاكتفاء الذاتي، بالإضافة الى تقديم نموذج إسلامي حضاري، مشع وفريد. كل هذا يجعل من مفهوم الاستقلالية إحدى أهم ركائز السعي للحصول على قدرات نووية سلمية، وقد صرح الإمام الخامنئي بأن "الجمهورية الإسلامية حققت إنجازات عدة في المجال النووي على الرغم من كل الضغوط، وستقوم بكل ما هو ضروري للتوصل إلى استقلالية علمية وتكنولوجية في هذا المجال".



كذلك تربط ايران تصميمها على امتلاك برنامج نووي بمفهوم العدالة الذي يعتبر ركناً جوهرياً في الخطاب الايراني والذي تغذيه التجربة التاريخية والفكرية للمذهب الشيعي. فالنظام الدولي قائم على ازدواجية المعايير وسيادة الظلم المقونن وهذا يتجسد في البرنامج النووي الاسرائيلي وغيرها من مفاهيم الامن النووي التي جوهرها التمييز ومنطق القوة. فممارسة إيران لحقها النووي هي تكريس عملي لمفهوم العدل الذي يعتقد النظام الإسلامي انه المفهوم الجوهري لإقامة الحق وممارسة السلطة لا سيما على صعيد إدارة الشؤون العالمية. وقد كررت طهران مراراً أنها تضع شرط العدل والاحترام كمقدمة لأي حوار مع القوى الكبرى.

إلا ان المفهوم الأكثر قوة ووضوحاً هو "المقاومة"، الذي يتولد من واجب الجهاد بالمعنى الديني وضرورة المواجهة حتى مع اختلال موازين القوى المادية، وهو ما كانت النهضة الحسينية مصداقه الأبهى، وهي الملحمة التي أبدع الإيرانيون فيها أدباً وفكراً وفناً والتزاماً. ويتجسد هذا المفهوم في الموقف الإيراني الرافض للهيمنة الاميركية والاستكبارية وسحق الشعوب المستضعفة، والمنادي بحتمية النهضة الانسانية الكبرى للمستضعفين التي تستلزم أعباءً وتضحيات كبرى لا غنى عنها، وبهذا تكون ايران بكل ما تتحمله من تبعات بسبب برنامجها النووي انما تسعى لتكريس منطق الرفض والمقاومة، وتقدم بذلك نموذجاً متقدماً في هذا المجال. وبناءً على هذه المقاربة يمكن القول إن طهران لن تتراجع قيد أنملة عن أصل "الحق النووي"، إلا أنه يمكن أن تبدي مرونة في وسائل تكريس واستخدام هذا الحق، وذلك على مثال الاتفاق الإيراني ـ التركي ـ البرازيلي حول تبادل الوقود النووي.

من ناحية واشنطن، فإن المقلق بالضبط هو هذه القيم الإيرانية الإسلامية المتمثلة بالسعي للاستقلال الكامل، والاقتدار، ورفض التبعية ومساندة الشعوب في الوقوف بوجه الهيمنة والسعي لبناء نظام إقليمي خارج السطوة الغربية، ويضمن مصالح وثروات شعوب المنطقة، أي بالخلاصة إقامة نموذج حضاري، عادل، ومقتدر للحكم الإسلامي. أما البرنامج النووي فلا ضير به إن ارتضت إيران خيار التبعية والالتحاق بسياسات واشنطن، أليس الغرب هو من دعم مشروع الشاه النووي حينما كان يلعب دور شرطي الخليج؟! في هذا السياق انتقد ستيفن كينزر في "الفورين أفيرز" سياسة العصا والجزرة التي تتبعها الولايات المتحدة بوجه طهران، معتبراً ان هذه المقاربة تنفع مع الحمير وليس مع أمة هي أعرق بعشرة أضعاف من الولايات المتحدة وتبحث عن الكرامة والاحترام واستعادة الكبرياء الضائع. بهذا المعنى، إن أكثر ما يقلق واشنطن وحلفاءها ليس مشروع إيران النووي، بل مشروعها النبوي.

حسام مطر

Fire in Syria…Smoke in Hormuz

By: housam matar 
Published by alakhbar english, Wednesday, February 15, 2012
Amid the mutual escalation between Iran and Western powers, the world has been fretting about what has come to be called the Strait of Hormuz Crisis. Will Iran close off the strategic waterway? How would Washington react to such an action? Will the current crisis spiral into a limited confrontation or a regional war?
Fears of a military confrontation are certainly valid, given the scale of the changes and turmoil sweeping the region and the international order as a whole. Nevertheless, neither the Iranian or American sides seem to want a direct confrontation. Both would rather employ a policy of attrition, using their allies as proxies. They see that as a more effective option and also a less costly and risky one.
This attrition, however, is not only physical. It extends to the sphere of legitimacy. Washington takes the view that stoking the Sunni-Shia sectarian rivalry undermines Iran’s legitimacy in the region, while economic sanctions and political pressure on the regime erodes its legitimacy at home. Iran, for its part, sees challenging the American presence in the region as an effective means of delegitimizing both the US-led campaign against it, and the regimes that are complicit in it.
It is hard to avoid comparisons with the Cuban Missile Crisis of the 1960s between the US and the Soviet Union. That was certainly far more serious than the current crisis seems, given that nuclear weapons were involved. But this does not negate the latter’s destructive potential, especially now that Russia has become a party to the current crisis, as a number of Russian officials have indicated.
During the Cuban crisis, both sides found themselves in a predicament. Neither wanted a direct clash. Washington therefore decided to institute an embargo on Cuba, and abandoned the option of invading the island or bombing the Soviet missile bases there. President Kennedy even amended the rules of engagement at sea to forbid the firing even of warning shots without a direct order from him personally. On the other side, the Russians refrained from breaking the naval blockade or completing the construction of their missile bases in Cuba.
Ultimately, because of the balance of terror, each side drew red lines for the other: a Soviet red line was drawn around Cuba (the Soviet Union would not stand for a United States invasion) and a US red line was drawn to prevent the transfer of nuclear-capable missiles to its hemisphere.
In the case of Hormuz, Iran declared publicly that if its vital interests were threatened, it would proceed to close the Strait. This came amid escalating Western economic pressure and oil sanctions against Tehran, ostensibly because of its nuclear program. Washington responded that it would never allow Iran to block the waterway through which 40 percent of the world’s crude oil imports pass.
This was accompanied by the staging of military displays by both sides, in a kind of silent duel. Iran held military exercises, and the US sent aircraft carriers back to the Gulf.
The most striking part of this interaction, however, was US President Barack Obama’s letter stating that Washington had no desire to escalate the situation, and the subsequent postponement of joint military maneuvers between the US and Israel.
If these two steps indicate anything, it is that Washington has no intention of clashing directly with Tehran at this time. The US will therefore remain wary of increasing the pressure on Tehran to a point that would provoke it to take the dramatic decision to close the Strait – in other words, to go to war. Accordingly, Iran can be said to have succeeded, for now, in delineating a red line for international pressure.
Yet it is simplistic to think that Washington was unaware that Tehran had red lines which it would allow no-one to cross, even if that triggered a regional confrontation. The Americans know that Iran can adjust to economic pressure, as long as this pressure stops short of destroying its energy and banking sectors. That would deny it enormous revenues required both for domestic and foreign aims, and thus place grave strains on the regime's domestic and international legitimacy.
The Iranians are likely to have learned much from the Soviet Union’s past mistakes. They understand that from Washington’s perspective, the destruction of the Iranian economy is the most attractive course. Accordingly, they will not hesitate, at the crucial moment, to shift the confrontation to an arena on which they are capable of countering Western economic warfare – the military arena, specifically the Strait of Hormuz. It is here that Iran possesses a range of options, from restriction to outright closure.
In that case, what is the purpose of the intensifying and ongoing Western escalation against Iran? It seems to be linked to a number of considerations:
First, Western escalation is partly meant to prevent Iran from intervening in support of the straitened Syrian regime, by distracting Tehran and limiting its options.
Second, increased escalation from Western powers meets a perceived need to send positive messages to Israel about the seriousness of Western misgivings regarding Iran’s nuclear program.
Third, this increased escalation reaffirms to Washington’s allies that the Middle East remains among its major priorities, contrary to recent signals, including Obama’s recent unveiling of a new defense strategy that focuses on the Asia-Pacific region.
Fourth, the West’s escalation is a further way of trying to prevent Tehran from influencing the process of change underway in the Arab world.
In the absence of a decision to wage a direct conventional confrontation, the US would seem to be sticking to its strategy of containment – while toughening and deepening it, as can be seen with Syria. To Washington’s mind, a showdown with Tehran now would risk squandering the gains which the Americans and their allies believe they have made so far in Syria.
So long as the defeat of Syria appears more achievable than ever before, then efforts and resources must be concentrated there. And the defeat of Syria would have far worse consequences for Iran than any economic sanctions, however harsh. Worse even, perhaps, than a military attack on its nuclear facilities.
But a new problem comes into play at this point. Doesn’t Tehran, like Russia, consider the fall of the Syrian regime to be a red line too? The Iranian position seems clear. Syria is indeed a red line for Iran. But it differs from the others in terms of Iran’s capacity to respond if it is crossed. Tehran cannot enter into the Syrian conflict at the same level and in the same way that it could in a direct engagement.
What Iran can do is up the ante over other contentious issues with Western powers, or over regional points of friction with the US’ clients, by becoming bolder and more confrontational. Here, the crises of Syria, the Strait of Hormuz, Iraq, Lebanon, and Yemen all come into play, as does the conflict with Israel.
The complexity of the situation forces the chief players to make careful and constant calculations about the level of tensions and the point at which they could trigger conflict. But there is a high risk of miscalculation here given the degree of complexity, the depth and speed of the changes occurring in the region, and the intrusion of sectarian and historical passions into rational decision-making.
Miscalculation could lead to devastating war.
The furor may be over Hormuz, but its source is Syria. In other words, the smoke is in Hormuz, but the fire is in Syria. All concerned would do well to understand that.
Housam Matar is a Lebanese researcher of International Relations.
This article is an edited translation from the Arabic Edition.

صحيفة الأخبار: النار في سوريا... والدخان في «هرمز»


نشرت هذه المقالة عبر جريدة الأخبار اللبنانية العدد 1634, الثلاثاء 14 شباط 2012

حسام مطر

خلال ذكرى الثورة الإيرانية (أ ف ب)
يُشغل العالم هذه الأيام بما أصبح يعرف بأزمة مضيق هرمز، في خضم التصعيد المتبادل بين إيران والغرب: هل ستغلق إيران هذا الممر الاستراتيجي؟ كيف ستتعامل واشنطن مع ذلك؟ هل ستتدحرج الأزمة الى حرب إقليمية أم مواجهة محدودة؟ لا شك في أنّ القلق من وقوع مواجهة عسكرية مشروع، بالنظر الى مستوى التحولات والاضطرابات التي تضرب المنطقة والنظام الدولي ككلّ، إلّا أنّه يبدو حتى الآن أنّه لا رغبة عند كلا الطرفين، الإيراني والأميركي، في خوض مواجهة مباشرة، بل يفضلان ممارسة «سياسة القضم»، مستخدمَين أسنان الحلفاء، وذلك باعتبارها سياسة أكثر فعالية وأقل كلفة ومخاطرة. إلا أنّ سياسة القضم تلك لا تنحصر في المجال المادي، بل تمتد الى مجال الشرعية أيضاً. من هذا المنطلق، ترى واشنطن أنّ تسعير التنافس المذهبي يقلص شرعية النظام الإيراني على المستوى الخارجي، فيما تمثّل العقوبات الاقتصادية والضغوط على بنية النظام السياسية، الوسيلة الأبرز لتهديد شرعية النظام الداخلية، فيما تجد إيران في تحدّي الوجود الأميركي في المنطقة سبيلاً فعالاً لسحب الشرعية عن هذا المشروع، وشرعية الأنظمة الملحقة به.
عند استعراض أزمة مضيق هرمز وحساباتها، لا يمكن إلا استذكار الأزمة الكوبية في ستينات القرن الماضي بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. بالتأكيد تبدو الأزمة الكوبية ذات تهديد أكبر بكثير من الأزمة الحالية، نظراً إلى احتوائها على العنصر النووي، إلا أنّ ذلك لا ينفي الاحتمالات التدميرية للأزمة الحالية، ولا سيما بعدما أصبحت روسيا جزءاً منها، كما عبّر أكثر من مسؤول روسي أخيراً. فخلال الأزمة الكوبية، وجد كلا الطرفين نفسه في ورطة، إذ لم تكن لدى أيّ منهما رغبة في الصدام المباشر، لذا اكتفت واشنطن بحصار كوبا، وسقط خيار توجيه ضربة جوية إلى منصات الصورايخ الروسية أو غزو الجزيرة. حتى إنّ الرئيس كينيدي عدّل قواعد الاشتباك البحري، ومنع إطلاق النار حتى ولو تحذيرياً من دون أمر مباشر منه شخصياً. في المقابل، امتنع الروس عن خرق الحصار البحري واستكمال تركيب منصات الصواريخ. في المحصلة ونتيجة لتوازن الرعب، رسم كلا الطرفين خطوطاً حمراء لخصمه: خط أحمر روسي حول كوبا، وخط أحمر أميركي حول نقل صورايخ قادرة على حمل رؤوس نووية الى الجوار الأميركي.
 بالعودة الى هرمز، فقد أعلنت إيران صراحة أنّه في حال تعرّض مصالحها الحيوية للخطر فإنّها ستبادر الى إغلاق المضيق، وذلك في ظل تصاعد الضغوط الاقتصادية والنفطية الغربية على طهران، بحجة برنامجها النووي. في المقابل، ردت واشنطن بأنّها لن تسمح لإيران بإغلاق المضيق الذي تمر فيه 40% من واردات النفط العالمي. وقد ترافق ذلك مع عروض عسكرية متبادلة بين واشنطن وطهران في مضيق هرمز، كنوع من المنازلة الصامتة أو الباردة، كالمناورات الإيرانية وعودة حاملات الطائرات الأميركية الى الخليج. إلا أنّ اللافت كان رسالة أوباما عن عدم رغبة واشنطن في تصعيد الموقف، وما تلاها من تأجيل للمناورات العسكرية المشتركة بين إسرائيل والولايات المتحدة. إن كان من دلالة لهاتين الخطوتين، فهو أنّ واشنطن لا نية لديها بالتصادم المباشر مع طهران في هذه اللحظة، لذا ستبقى واشنطن حريصة على أن لا يصل مستوى الضغط على إيران الى «المستوى الأحمر»، فتتخذ طهران القرار الدراماتيكي بإغلاق المضيق، أي قرار الحرب.
 إذن نجحت طهران حتى اللحظة في رسم خط أحمر للضغوط الدولية، إلا أنّ من البساطة الاعتقاد بأنّ واشنطن لم تكن على دراية بأنّ لطهران خطوطاً حمراء لن تسمح لأحد بمسها، حتى لو أدى ذلك الى اندلاع مواجهة إقليمية، إذ يدرك الأميركيون أنّ إيران قد تتكيّف مع الضغط الاقتصادي، لكن ليس الى حد تدمير قطاعها الطاقوي والمصرفي، بما يحرمها موارد ضخمة تستخدم في التنمية الداخلية والسياسة الخارجية، وهو ما يعرّض شرعية النظام الداخلية والخارجية لتحدّيات خطرة جداً. تعلّم الإيرانيون كثيراً ـــــ على الأرجح ـــــ من أخطاء السوفيات السابقة، وهم يدركون أنّ تدمير الاقتصاد الإيراني هو السبيل الأكثر جاذبية بالنسبة إلى واشنطن. لذا لن يتردد الإيرانيون في لحظة حاسمة في نقل المواجهة الى حيث يمكنهم مقابلة الحرب الاقتصادية الغربية، أي الى المجال العسكري، وبالتحديد في منطقة المضيق، حيث يملك الإيراني جملة خيارات تراوح بين الإغلاق والتضييق.

إذاً ما الهدف من التصعيد الغربي المتصاعد والمستمر في وجه طهران؟ يبدو أنّه مرتبط بجملة حسابات: أولاً، هو محاولة لتحييد طهران عن التدخل في دعم النظام السوري في لحظته الحرجة، عبر إلهائها وتقييد خياراتها. ثانياً الحاجة الى توجيه رسالة إيجابية الى إسرائيل عن جدية الهواجس الغربية تجاه برنامج إيران النووي. ثالثاً، محاولة واشنطن التأكيد لحلفائها أنّ الشرق الأوسط لا يزال من أولوياتها الكبرى، بعكس ما يشاع، ولا سيما بعد إعلان أوباما الاستراتجية الدفاعية الجديدة التي ركزت على منطقة الهادئ. ورابعاً مواصلة السعي إلى إقصاء طهران عن التأثير في لحظة التحوّل العربية هذه. يبدو أنّه في ظل غياب القرار الأميركي بخوض مواجهة تقليدية مباشرة، لا تزال استراتيجية الاحتواء الأميركية تحتل المشهد، إلا أنّها تصبح أكثر تشدداً وعمقاً، كما يحدث في سوريا، إذ بالنسبة إلى واشنطن، فإنّ المواجهة مع طهران حالياً، من شأنها إضاعة ما يعتقد الأميركيون وحلفاؤهم أنّهم نجحوا في تحقيقه حتى الآن في الملف السوري. لذا، ما دام يبدو أنّ هزم سوريا ممكن التحقق أكثر من أي وقت مضى، فلا بد من تكريس الجهد والموارد على الملف السوري، لأنّ تداعيات هزم دمشق بالنسبة إلى إيران، أقسى بكثير من العقوبات الاقتصادية مهما كانت، وربما أقسى من توجيه ضربة عسكرية إلى المنشآت النووية الإيرانية حتى.
 إلا أنّه حتى عند هذه النقطة، تبرز إشكالية جديدة. ألا تعدّ طهران ـــــ كما روسيا ـــــ أنّ سقوط النظام السوري خطاً أحمر؟ يبدو الموقف الإيراني واضحاً، فسوريا خط أحمر بالنسبة إلى إيران، إلا أنّ الفارق هنا هو في قدرة الرد الإيرانية، إذ لا يمكن طهران الدخول في المواجهة السورية بالمستوى والشكل اللذين تستطيعهما، حين تكون المواجهة معها مباشرة. إلا أنّ ما يمكن طهران فعله هو الانتقال إلى مستوى أعلى من الجرأة والعدائية والمواجهة في الملفات الشائكة بينها وبين الغرب، أو في نقاط الاحتكاك الإقليمي بينها وبين أتباع واشنطن في المنطقة، وهنا تتشابك على نحو معقد أزمات سوريا ومضيق هرمز والعراق ولبنان واليمن والصراع مع إسرائيل. هذا التعقيد يفرض على اللاعبين الأساسيين القيام بحسابات دقيقة ومتواصلة، حول مستوى التوتر والحدّ الذي يمكن معه انفلات المواجهة، إلا أنّ مستوى التعقيد وعمق التحوّلات وسرعتها، وتداخل الجوانب المنطقية بالانفعالات المذهبية والتاريخية، كلّها تنتج مخاطر الحسابات الخاطئة التي قد تؤدي إلى حرب مدمرة. صحيح أنّ الضجيج هو في هرمز، إلا أنّ الكباش في سوريا، أو قل الدخان في هرمز فيما النار في سوريا، عسى أن يدرك المعنيون ذلك سريعاً.
* كاتب لبناني
العدد ١٦٣٤ الثلاثاء ١٤ شباط ٢٠١٢

سوريا: ستاتيكو ميداني وتسوية، وإلا فمواجهة شاملة


نشرت هذه المقالة عبر موقع الإنتقاد بتاريخ 13\2\2012

لا يزال السؤال حول مصير الأزمة السورية هماً إقليميا ودولياً ، إذ أن نتائج الأزمة سيكون لها بدون أدنى شك إرتدادات عميقة على توازنات القوى في المنطقة. تتعدد التكهنات حول مآل الأزمة بين قائل بالحسم لصالح النظام وبين متيقن من سقوطه ولو بعد حين. إلا أنه وبالنظر الى وقائع الأزمة وتعقيداتها الميدانية والإجتماعية والخارجية، تبدو كلا الوجهتين شديدة التبسيط والدعائية والشعبوية. فبعد أكثر من عشرة أشهر على المواجهة القاسية بدأت ترتسم بوضوح حدود القوة والتأثير لدى كلا الطرفين، النظام والمعارضة المسلحة.

فالقول بإمكانية الحسم العسكري او حتى السياسي لصالح النظام يتجاهل جملة من المعطيات والوقائع، أبرزها: التمدد المسلح للمعارضة في الريف السوري والمناطق الحدودية وضواحي بعض المدن الكبرى، إنتقال المواجهة الى نموذج جيش نظامي ـ قوة تمرد، والتي يستحيل فيها تحقيق نصر ميداني لا سيما بالنظر الى الجغرافية السورية والإحتضان الإجتماعي لقوى التمرد في جملة من مناطق نفوذه، وتصاعد الخطاب المذهبي الذي يضرب أسس المجتمع السوري الإجتماعية والثقافية، الدعم اللوجيستي الهائل ـ عتاداً وعديداً ـ من أغلب الدول المجاروة لسوريا، وثم دور اللاعبين الدوليين ووسائل الإعلام.

يضاف الى ذلك، بأن الحقبة الحالية تشهد تدهوراً حاداً في فعالية القوة الصلبة بفعل التغيرات في مفهوم القوة والشرعية ودور الإعلام الحديث والرأي العام الدولي. مع العلم أن النظام يعاني من إستنزاف إقتصادي ـ خدماتي يجعل من إستخدام القوة مكلفاً، ما يجعل النظام مدركاً بعمق لحدود قوته العسكرية لذا تميل تكتيكاته نحو توجيه ضربات دقيقة محددة وفي المناطق ذات الأهمية الخاصة كريف دمشق ومدينة حمص والحدود التركية، وذلك بهدف تجنب شرك التمدد المفرط والإستنزاف.

لقد سبق لمهندس "الثورة العربية الكبرى"  المعروف بـ "لورنس العرب" أن اشار في خلاصة تجربته الى وجوب " أن يحظى التمرد بقاعدة مسالمة، بشيء محصن ليس من الهجمات فحسب بل حتى من الخوف من هكذا هجمات، كما كانت الصحراء أو مرافىء البحر الأحمر بالنسبة للثورة العربية. ويجب ان يتمتع التمرد ببيئة صديقة، ويكفي ان تكون صديقة بالمعنى السلبي أي ان تقبل بالثوار ولا تتعاون مع عدوهم. فالتمرد يمكن صنعه فقط من خلال 2% من السكان كقوة ضاربة و98% من السكان المتعاطفين. هذه الثلة من المتمردين يجب ان تمتلك مهارات السرعة، التحمل، الانتشار، والإستقلالية عن خطوط الإمداد. كما يجب أن يمتلك المتمردون التجهيزات التقنية لتدمير او شل خطوط الإتصال المنظمة للعدو". يدرك داعمو المعارضة المسلحة السورية لا سيما الأميركيين عناصر هذا النوع من المواجهة فهم كانوا من ضحاياه في فيتننام والعراق وأفغانستان، ولذا ليس مستغرباً التطور السريع الذي تشهده تكتيكات ما يسمى " الجيش الحر" في هذا المجال.


في المقابل يغفل القائلون بسقوط النظام جملة وقائع مقابلة: التماسك الواضح للجيش السوري وعدم حصول إنشقاقات كبرى، مهارة ووحدة الدبلوماسية السورية، سيطرة النظام على أغلب المدن الأساسية والتي تضم الأغلبية العظمى من السكان، التأييد الواسع للنظام لا سيما ضمن الفئات المؤثرة،  المحور الاقليمي المقاوم والذي تشكل دمشق أبرز أركانه وهو ما يؤمن لسوريا عمق إستراتيجي وذراع مقتدرة في جملة ملفات حساسة، الموقف الهام لجملة من الدول الكبرى لا سيما الصين وروسيا بما يقيد قدرة اللاعبين الدوليين على التأثير في الداخل السوري. يضاف الى ذلك وهن وإنقسام المعارضة السورية مع بروز إمكانية لتصادم سياسي ـ ميداني بين أطيافها، نفور السوريين بشكل عام من أنظمة الخليج التي تتصدر مشهد الدعوة الى ديموقراطية سورية، النتائج الفوضوية التي تمخضت عن الحراك العربي وهو ما يدفع مزيدا من السوريين الى المخاطرة بالسير وراء الإصلاحات الموعودة بدل المخاطرة بمصير سوريا كوطن.

لذا وعلى عتبة عام من إنطلاق الأزمة السورية بدأت ملامح الستاتيكو الميداني بالتبلور، وحدود وضوابط كلتا القوتين تظهر أكثر وضوحاً، وعنصر المباغتة إنحصر في النواحي التكتيكية، ويمتد هذا الستاتيكو الى ميزان القوى الدولية والإقليمية. مثلاً ، لقد سقط الرهان الذي طال الحديث عنه بأن طهران وموسكو سرعان ما سيقايضان نظام الأسد بجملة ضمانات أمنية، تماما كما سقطت إمكانية تطبيق النموذج اللليبي. بناء على هذا كله، فإن خط الشرخ السوري أصبح واضحاً وشبه ثابت وهو يقسم الإقليم السوري الى مناطق نفوذ بين الطرفين، والذي عليه سيدور الجزء الاكبر من المناوشات والاحتكاكات العسكرية في ظل اختراقات متبادلة بحسب تغير الظروف المذكورة أعلاه.

من حيث تأثيرات هذا الستاتيكو على التوازن الإقليمي،  تبدو سوريا نسبياً قادرة على ممارسة دورها ضمن محور المقاومة كعمق إستراتيجي وعقدة وصل. في المقابل نجح الأميركيون وحلفاؤهم في تشتييت القوة السورية، إستنزافها، والإنتقاص من فعاليتها في أي مواجهة مستقبلية مع "إسرائيل". في الخلاصة يبدو ان الستاتيكو الميداني بات شبه متحقق، بالتوازي مع مبارزة سياسية محتدمة ، الإصلاحات من جهة النظام والضغوط الإقتصادية والدبلوماسية من ناحية داعمي المعارضة. لقد إنقلبت المواجهة في سوريا من حالة نظام ـ معارضة الى حالة الحرب الأهلية المحدودة، بما يفرض تغييراً في أدوات المواجهة ووسائل إنهائها وشروط التسوية فيها. مع تعذر الحسم لكلا الطرفين لا تبقى إلا التسوية السياسية، ولكن بأي أثمان؟ وأي شروط؟ وبين من ومن؟ أو ربما سيقتنع الجميع بواقع الحال، سوريا المنقسمة على نفسها، غير ذلك لا تبقى إلا المواجهة الشاملة.

Saudi Nuclear Program: A Mirage of Progress


alakhbar english, Published Thursday, February 9, 2012

Saudi Arabia recently declared its intention to launch its own nuclear program.The announcement was made in December by the Minister of Commerce and Industry Abdullah Zainal, who said 375 billion riyals (US$100 billion) would be spent on building 16 nuclear power plants to generate electricity in different parts of the kingdom.This was later confirmed by Foreign Minister Saud al-Faisal, who indicated that other member-states of the Gulf Cooperation Council (GCC) are also “studying the economics of nuclear energy.”

But the timing of the announcement indicates that political, security, and strategic considerations are most important in this case.The program, should it materialize, would have major implications for the region, especially in terms of nuclear proliferation.The prospect of a Saudi nuclear program should be examined in relation to the strategic shift in the balance of power in the Middle East, the development of the Iranian nuclear program, Israel’s security, and the Saudi regime’s political calculations. 

Saudi Arabia certainly has the financial resources to embark on such a program. It seems likely that the other Gulf states would also participate – especially in light of the Saudi monarch’s recent call on the GCC countries to move toward the formation of political union. It is not surprising that such an appeal would come from Saudi Arabia, the GCC’s core member and heavyweight nor that it should be made at this particular political moment in the region. The Gulf states feel abandoned and vulnerable. Any Saudi nuclear program, in contrast to its Iranian counterpart, would be completely dependent on foreign parties. In this context, Saudi Arabia’s nuclear ambitions could be seen as part of its proposal for Gulf unity – which would need to be grounded in a combination of economic integration, a common security and political vision, and a consensus on the GCC region’s and role. On the other hand, Saudi Arabia has a severe shortage of skilled specialists and trained scientists. Any Saudi nuclear program, in contrast to its Iranian counterpart, would be completely dependent on foreign parties.

The prospect of the Gulf states going nuclear has long been raised by US advocates of an attack on Iran’s nuclear program. They argue that acceptance of Iran as a nuclear power would encourage other countries in the Middle East to establish their own nuclear programs for security reasons. This in turn would undermine US efforts to limit nuclear proliferation in a region rife with fundamentalists, fragile states, and tensions.Accordingly, the Saudi decision may stem from a belief that Iran has crossed the point-of-no-return in its nuclear program. The Saudis also believe that international and regional adversaries have effectively acquiesced to that, realizing that they are unable to act against it militarily. Alternatively, the kingdom could be trying to provoke the US and Israel in order to push them to adopt a harder line toward Tehran.

It is more likely, however, that Riyadh has come to appreciate that signing up to US schemes in the region is no longer an adequate guarantee of security. Washington has served notice that it wants to shed its Middle Eastern burdens, and that its allies should take more responsibility for safeguarding their interests and security. American opponents of the proposed Saudi nuclear scheme can be expected to cite three objections.
First, that nuclear material might fall into the hands of Saudi extremists, or that hardliners might assume power in a country with a fragile and troubled political system. The same fears apply in the US-Pakistani relationship.
Second, they will argue that there is a serious danger of the program becoming militarized, which would pose a direct challenge to Israel’s strategic supremacy in the region.
Third, the Saudi program might trigger a nuclear arms race throughout the Middle East.

From the Saudi viewpoint, the program is partly prompted by a perceived need to transform the established image of Saudi Arabia from a state with a reactionary and corrupt rentier regime that is subservient to the West, to one of modernity, progress, and science. This has greatly undermined Saudi Arabia’s soft power – which is essentially based on sectarian proselytizing and pumping money – and thus its ability to attract and win over hearts and minds. Its capacity to wield or expand its influence and affect moments of regional transition suffers badly as a result.


The Arab Spring provided an important illustration of the limitations of Saudi soft power. Despite its tremendous financial capabilities, the kingdom occupies a back seat. Qatar and Turkey have operated with greater freedom and are better equipped to influence the course of the current transformation taking place in the region. The Saudis thus realize how badly they need to change the image the kingdom created for itself, and that exceptional initiatives are required to achieve this goal. Since the regime is not about to change the nature of its internal policies, it has opted to launch initiatives in other areas that do not threaten the regime’s control over Saudi society. In this regard, the Saudi regime pushed the idea of a nuclear program to the forefront as a key element in reconstituting Saudi soft power, especially at the present juncture in Arab history, when the Saudis feel that they are “a beacon without light.”

The Saudi nuclear initiative therefore does not target Iran as much as it aims to reinforce the Saudi regime’s internal legitimacy and strengthen popular cohesion around the Saudi leadership, which is plagued with uncertainty, behind-the-scenes rivalries, and political infirmity.
The move also seeks to strengthen the kingdom’s regional presence, given the rise of regional powers like Egypt and Turkey that it cannot use sectarian discourse to confront.Ultimately, the Saudi regime needs to realize that its problems run deeper than its need for a nuclear program. Even if the kingdom were to acquire a nuclear capability, that would not enable it to overcome its crises. That would require a fundamental reformulation of the Saudi state, the legitimacy of its regime, and the nature of its role.

The Saudi regime’s problem is not limited to its appearance. Political plastic surgery will not be able to achieve much. The regime is not merely unsightly. Its more serious affliction lies in its heart. And treating the heart, if possible, takes priority over treating the face.

Housam Matar is a Lebanese writer.

إسلاميو السلطة: معضلة القيم والمصالح


نشرت هذه المقالة في صحيفة السفير , العدد 12107, تاريخ 11\2\2012


تمكن الإسلاميون من تحقيق نصر جلي في الانتخابات التشريعية المصرية، إلا أن نصرهم السياسي أي القدرة على إدارة شؤون الدولة والمجتمع بشكل عادل ومستدام لا زال بعيداً، إذ ان الفوز السياسي أكثر تعقيدا بكثير من الفوز الحسابي، فالأرقام كثيراً ما تكون خادعة ومضللة. في الحقيقة لم يتجاوز الإسلاميون في مصر وسواها إلا المرحلة السهلة، مرحلة نقد النظام وكشفه والوعد ببديل قادر على إيجاد الحلول، مرحلة "الإسلام هو الحل". لطالما أجاد الإسلاميون الاداء في هذه مرحلة لأنها مرحلة الوعظ والتبشير والتنظير ولن يعصى على الإسلاميين ترداد جملة من النصوص المقدسة والآيات القرآنية القادرة على تعبئة الجماهير وحشدها ومدها بالأمل، لا سيما أن قادة الحركات المؤدلجة عادة فصحاء وأهل خطابة. وبالواقع لقد تجاوزت أغلب الحركات الإسلامية هذه المرحلة بنجاح، عبر استغلال سقطات وفشل النظام القائم، الاستخدام الكثيف للخطابة الدينية، مجموعة من الخدمات الاجتماعية، وقدرات تنظيمية عالية.
في المقابل لطالما كانت مرحلة التصدي والحكم هي الفيصل في قياس نجاح هذه الحركات، والتي غالباً ما رسبت فيها لجملة عوامل موضوعية وذاتية. ويمكن تلخيص التحديات الأبرز التي ستواجه الإسلاميين عموماً في هذه المرحلة بالتالي: وحدة الحركة الإسلامية ذاتها، إشكالية القيم والعقائد في مواجهة الواقع - وهما تحديان يثيران مع الوقت إشكالية "الهوية" - إيجاد البديل الاقتصادي، التعاطي مع المعارضة الداخلية ومسألة الحرية والديموقراطية، كيفية مواجهة الضغوط الخارجية، أي بالمختصر تقديم نموذج حكم عادل مقتدر ديموقراطي ومستقل. بالنظر الى هذه التحديات التي لطالما لاحقت الإسلاميين وأدت غالباً الى سقوطهم أو وهنهم، يمكن توقع التحديات التي ستواجه إسلاميي مصر في المرحلة المقبلة.

كل هذه التحديات ستنتج انقساماً ربما يصل الى مستوى الصدام داخل الحركة الإسلامية بين الأصوليين والبراغماتيين، الاتجاه الأول سيفسر الوقائع السياسية من منظار حرفية النص الديني، فيما الاتجاه الآخر سينحو باتجاه إيجاد فاصل بين مجالي السياسة والدين، وهو فاصل يترواح ما بين العلمانية والواقعية المقيدة. من أبسط الأمثلة، الإشكال الأخير في البرلماني المصري بين رئيس المجلس وأحد النواب بعد ان قام الأخير برفع الأذان داخل المجلس اعتراضاً على عدم تعليق الجلسة لصلاة العصر، ما انتج مشادة بين النئب السلفي والاخوان الذين افتى احدهم بجواز جمع صلاتي الظهر والعصر أثناء العمل. قد يبدو المثال بسيطاً إلا انه يؤشر لما سيكون عليه واقع الحال في القضايا السياسية الكبرى لا سيما في الإقتصاد والسياسة الخارجية، وهو ما دفع مايكل سينغ الى مخاطبة الليبراليين في مصر بأنه بدلاً من الشعور "بالإحباط نتيجة أدائهم الانتخابي المخيب للآمال، ينبغي عليهم التركيز على اللعبة الاقتصادية الطويلة، لأن أي حزب يوفر الازدهار للمصريين سوف يحكم مصر" (الأزمة الاقتصادية المتنامية في مصر، فورين بوليسي، 20 كانون الأول 2011).

إلا ان واقع هذا الانقسام ليس دينياً محضاً، بمعنى أن جذوره ليست ناتجة فقط عن رؤى عقيدية وفقهية متفاوتة، بل تشترك فيها عوامل التنافس السياسي والشرعية. تتنافس القوى الإسلامية على وعاء واحد إجمالاً، وهي الطبقات الشعبية الفقيرة والمجموعات المتدينة، ففيما سيسعى إسلاميو السلطة الى تبني منهج واقعي بهدف مجاراة الوقائع الاقتصادية والمادية بما يمكنهم من تقديم مكاسب ترضي الناخبين، سيعمل إسلاميو الأقلية على تركيز النقد حول إنتهازية إسلاميي السلطة وإنحرافهم عن الضوابط الشرعية والفقهية بالإضافة الى إستحضار قضايا كبرى، ذات حساسية إسلامية، ورميها بوجه خصومهم متهمين إياهم بهجرها والتقصير فيها كنصرة المسلمين في بلدان محددة، مواجهة إسرئيل، والقضية الفلسطينية. إلا أن الامور لن تنتهي هنا، باعتبار انه في حال فشل إسلاميو السلطة في تحقيق ما يرضي الناخبين، وفي ظل النمو الشعبي للمعارضة الإسلامية وإستقطابها لما يتساقط من إسلاميي الحركة الأم، سيجد إسلاميو السلطة غالباً ضرورة في العودة الى الخطاب العقائدي، إلا ان وجدوا إمكانية ومصلحة للتحالف مع القوى الليبرالية في وجه الأصوليين، أو كانت هواجسهم تجاه الخارج هي الراجحة.

بهذا المعنى سيحرص الأخوان في مصر على تقديم خطابين، إلا ان ذلك يزداد صعوبة بعد أن اصبح الأخوان مكشوفين لأضواء السلطة والإعلام. هذه الازدواجية لن تكون ذات صلة فقط بالساحة الداخلية كما يُظهر دافيد بولوك. فقد أجرى بولوك مقارنة بين ما يبثه الإخوان في مصر على النسختين العربية والإنكليزية لموقعهم الإلكتروني، وخلص الى وجود خطابين لدى الجماعة، خطاب موجه الى الغرب مثقل بالمديح للديموقراطية (بالإنكليزية) والآخر إسلامي متشدد معاد للغرب (بالعربية). واعتبر الكاتب ان هذه الازدواجية لطالما ميزت خطاب الإخوان لذا "يتعين على الولايات المتحدة أن تتعامل مع «الجماعة»، لكن لا يتعين أن نثق بأي شيء تقوله - حتى تُثبت العكس على الأقل". (واشنطن بوست، جماعة الإخوان الملسمين في مصر وسجلها في ازدواجية الخطاب، 26/1/2012)
في الخلاصة، سيكون الاشتباك السياسي المقبل في أغلبه داخل الحركة الإسلامية نفسها، وسيدور الخلاف الجوهري حول تعيين حدود الواقعية والنص الديني في الممارسة السياسية، وهو ما يرجح أن ينتج تيارات أساسية ثلاثة: الأول سيكتفي بالخطاب الديني دون الممارسة، والثاني سيتقيد بحرفية النص وسيتجه بالتالي نحو الضمور والعذلة، والثالث سيخوض تحدي البحث عن معايير تضمن إمساك العصا من الوسط وهو ما يحتاج الى تجربة سياسية نقدية وذهنية منفتحة على الواقع وقلب صادق في التزامه القيمي والايماني. لكل هؤلاء نكرر وراء علي شريعتي: "إلهي لقن المتدينيين أن الإنسان من تراب، وأن ظاهرة من مادة تفسر الله بقدر تفسير ظاهرة من غيب، فله في الدنيا وجود يساوي وجوده في الآخرة. لقنهم أن الدين إن لم يسبق الموت، فلا معنى له ، ولا فائدة فيه بعد الموت".

حسام مطر
باحث وأكاديمي ـ لبنان