من أنا

صورتي
باحث وكاتب لبناني في العلاقات الدولية والدراسات السياسية.حائز على إجازتي حقوق وعلوم سياسية من الجامعة اللبنانية ودبلومي قانون عام وعلاقات دولية, وماستر علاقات دولية ودراسات أوروبية.حاصل على منحة تفوق من الجامعة اللبنانية لنيل شهادة الدكتوراه. حالياً يتابع دراسة الدكتوراه في العلاقات الدولية في جامعة براغ الدولية.

إسلاميو السلطة "تحت الشمس": المثال الميكافيللي

 مقال نشر في صحيفة السفير, العدد: 12343, 28\11\2012

 

الأفكار كما المادة، عندما تُحجب عنها الشمس قد تكون عرضة للعفن ، وكما أن الضوء يخلص المادة من عفنها، كذلك يفعل الواقع بالافكار. قد تكون بعض الأفكار عفنة بكليتها، فيحيـلها الواقـع رماداً منـثوراً، وإمـا ان تكون عفنة بجزئيتها فتـطهرها التجربة، كمن يصقل حجرا نفيسا. وكلما كانت الفكرة أصيـلةً كانت أقـل عرضةً للتآكل.


عانت حركات الإسلام السياسي بشكل عام من الإقصاء والعزل في أغلب القرن الماضي، وتُركت سجينة دور الوعظ، والبنى السرية، والتنظير وترداد النصوص وشعارات المعارضة والرفض. كانت أحداث العامين الماضيين بمثابة إخراج فكر هذه الحركات المشبع بالإيديولوجيا الى «شمس» الواقع الحارقة. لذا ليس نقيصة او إهانة القول بأن المرحلة الاولى من هذا الخروج بدأت تكشف «العفن» الذي تعلق بجزء من الأفكار والخطاب الرسمي لهذه المجموعات. أفكارها المربكة والمتناقضة حول الدولة، السلطة، العنف، دور الشريعة، حقوق الأقليات، الموقف من إسرائيل، والعلاقة مع الإمبريالية الأميركية، كلها تكشف عمق البئر الذي ألقيت فيه.


لذا يجب أن يرتكز التقويم على حيوية التجربة الجديدة وقدرتها على التعلم، أي مهارة «الصقل» السياسي للفكر العقائدي الخام، بما يحفظ أصالته وغائيته من ناحية وقدرته على الإستجابة لشروط العصر وحاجات الإجتماع الإنساني من ناحية أخرى. المرحلة الأولى في تجربة «الإخوان المسلمين» السلطوية في اكثر من بلد إضافة لدورهم في سوريا، كشفت نزعة «براغماتية» مبالغ بها، الى الحد الذي يمكن أن يبدو فيه ميكافيللي «مثالياً». من المبكر مطالبة «الإخوان» بإنجازات، ولكن الحديث هنا عن المواقف كما في قرارات مرسي «الإلهية» الأخيرة التي كانت بمثابة إنقلاب، وكما في الموقف من إسرائيل والولايات المتحدة الذي لم تتغير فيه إلا لغة الخطاب مراعاة للناخبين الذين لم يكترث لهم مبارك.


قرارات الرئيس مرسي الأخيرة حول الإعلان الدستوري عمقت الشكوك الشعبية حول نوايا الإخوان لا سيما ان القرارات أعقبت دور مصر في التهدئة في غزة، وهو ما اعتبره البعض مكافأة أميركية، بالموافقة او بالتجاهل. هل كانت قرارات مرسي مرتبطة بالخلفية العقائدية للجماعة أم بشهوة السلطة؟ ربما! ولكن أيضاً بسبب إدراك الجماعة لعمق التحديات الإقتصادية والسياسية (الداخلية والخارجية) التي ستُضعف مع الوقت قدرتهم على تعبئة الناخبين، ولذا لا بد من الإمساك بمفاصل السلطة الان، حيث لا يزال ذلك متاحاً. بهذا المعنى يغلب على قرارات مرسي الأخيرة الطابع «البراغماتي» وليس العقائدي، هي لعبة الهيمنة وتوازن القوى. هو الخوف مجدداً يحكم سلوك الجماعة.


حالياً الإخوان بين مطرقة واشنطن وسندان المسألة الإقتصادية، بين أزمة «أجيال» وأزمة «أجنحة»، بين تشدد السلفيين وعلمانية القوميين. لن يستطيع «الإخوان» التفرد بحكم مصر ولا ضمان الإستمرار بالسلطة، ولكن يمكنهم المساهمة في تكريس نظام يحفظ التداول السلمي للسلطة بما يتيح لـ«الإخوان» إمكانية ان يعودوا الى موقع القرار عند كل محطة انتخابية. ثانياً، من غير الممكن لـ«الإخوان» قيادة مصر لا سيما في المدى المنظور (وهي مرحلة تأسيسية) إلا من خلال إئتلافات واسعة مع قوى وازنة تستند على توافقات أولية حول النظام السياسي- الإقتصادي وحول موقع ودور مصر الخارجي. ثالثاً، ما دام «الإخوان» ارتضوا سياسة خارجية «صفر عقائدية» تقريباً، فلم لا يمكن الاتفاق مع التيار القومي على نقاط وسط حول الخلافات المرتبطة بموقع الشريعة في الدستور الجديد، وحينها يمكن للجماعة ان تكون اكثر تحصيناً تجاه المطالب الداخلية والضغوط الخارجية.


ما يحصل اليوم في مصر، يعزز فرضيات القلق حول سلاسة عملية الانتقال الديموقراطي، وقد كانت مارينا اوتاواي (خبيرة بقضايا التحول السياسي في الشرق الاوسط لدى مؤسسة كارنيغي) خلصت في معرض دراستها للتحول في مصر وتونس الى أنه من المستحيل ـ بـل وغــير المنصـوح به ـ تنظيم انتـخابات خـلال أشـهر من إسقاط النظام. كثير من الأمور يجب أن تحصل قبل ذلك، تعديل الدستور، قوانين جديـدة، أحـزاب جديدة، وبعـض الإجمـاع على المـبادئ الأساسـية. إلا أن عـملية أبـطأ تحـتاج أيضاً خريطة طريق واضـحة، جدول زمني، مع علامات ومـهل محـددة، وليـس عملـية ضبـابية متروكة لأهواء حكومة ناقصة الشرعية أو الحشود المستعجلة.


التوتر المتصاعد بين الإسلاميـين (الإخـوان والسلفـيين) وبين القوى القوميـة والوطنية والمقاومة في اكـثر مـن سـاحة يستدعي القلق الشديد. سيبقى الإسلاميون في المدى المنظور جزءاًً أساسـياً من اللـعبة السـياسية، لذا يجب استمرار التواصـل مع هـذه المجـموعات مــن خلال اطر وملتقيات ومصالح مشتركة. المسار الصدامي (ليس المعارضة) بوجه «الإخـوان» سيشجـعهم أكـثر على التـفاهــم مـع واشنـطن وحلـفائها، لذا لا بـد مـن الانخراط الدائم مع الجماعة عبر الحوار والاحتكاك والتنسيق، مع جمهور «الإخوان» وشبابهم وطلابهم ونقابييهم وقياداتهم.


الشرق الأوسط يعج بروائح «العـفن» هذه الأيـام، لأن أفكاراً بكليتها خرجت الى الشـمس، وهو حـال سيــدوم مدة من الزمن تحددها سياسات الجميع، لا الإسلاميين فقط.


حسام مطر

خيارات أوباما الخارجية بين «الشرطي» و«المنارة»

صحيفة الأخبار, العدد ١٨٥٨, ١٣ تشرين الثاني ٢٠١٢

 حسام مطر

تبدأ السياسة الخارجية لأي دولة من خلال رؤية النخبة الحاكمة للعالم، ومفهومها لدورها فيه، وثقافتها الإستراتيجية، وتجربتها التاريخية. وهذه كلها تتعرض للتغيير النسبي مع الوقت بحسب التطورات الاجتماعية وموازين القوى الداخلية وتحوّلات النظام السياسي. لطالما عانت الولايات المتحدة من إشكالية تعريف دورها في العالم، بفعل مزيج من الغطرسة، والغرور، والانبهار بالذات، والنجاحات، وحتى المآسي التي يتشكل منها «العقل الأميركي». فهل تبني واشنطن سياستها الخارجية على أساس أنّها شرطي العالم، أم قوة إمبراطورية، ام أنّها منارة تجتذب الأتباع؟ هذه الإشكالية واجهت أوباما منذ بداية حملته الانتخابية الأولى وستستمر الى حين نهاية ولايته الثانية التي حظي بها منذ أيام. يحتدم هذا النقاش في عهد أوباما بفعل الحاجة الأميركية الملحة الى التقشف ولا سيما في الميزانية العسكرية، في زمن تتصاعد فيه قوة الصين العسكرية والاقتصادية، والتهديد النووي الإيراني، وانبعاث قوى «لا دولتية» (non- state actors) ذات تصميم وخطورة لا يمكن التعامل معها بوسائل الحرب التقليدية.


عارض المحافظون (بمن فيهم مرشحهم الخاسر رومني) بالإضافة للمؤسسة العسكرية الأميركية خطة أوباما للتقشف في الميزانية العسكرية، وإن كانت معارضة العسكر بديهية فإنّ موقف المحافظين نابع من طموحهم للعب دور «شرطي العالم». وزير الدفاع ليون بانيتا اعتبر أنّ الأمن القومي هو «قوتنا العسكرية» قائلاً «ندرك انّ الموارد محدودة وعلينا التعامل مع هذه التحديات، لكن لا اعتقد ان علينا الاختيار بين امننا القومي والمسؤولية المالية»، فيما يرفض توماس دونيللي (محلل سياسات امنية ودفاعية لدى مؤسسة «أميركان إنتربرايز» المحافظة) هذا التقليص كون الجيش الأميركي كان يقوم بجهد متزايد بميزانية أقل منذ نهاية الحرب الباردة، إذ إن مقارنة الميزانية الدفاعية مع نسبة الثروة الأميركية تظهر أن هذه الميزانية لا تزال تتناقص منذ تلك الفترة. إن خفض النفقات العسكرية سيترك عواقب يمكن قياسها بتراجع القوة والنفوذ والأمن الأميركي. يحاجج أنصار هذا الرأي بأنّ ما تقوم به الولايات المتحدة ليس تحملاً لأعباء الآخرين بل أنّها تخدم «الخير العام العالمي» وذلك لأنّ التحالفات الأمنية الأميركية تنطبق عليها شروط «الخير العام».

يتخوف بعض الأميركيين أن يكون التقشف في الميزانية الدفاعية غير ممكناً، لأسباب عدة كما يراها مايكل اوهانلون: نظام رعاية العسكريين أصبح مكلفاً جداً في السنوات الأخيرة لا سيما مع استدعاء الاحتياط وأعداد الجرحى. ثانياً هناك كثير من النفقات العسكرية العادية سترتفع أكثر من التضخم باعتبار أنّ الإنفاق العسكري هو جزء من الاقتصاد. وتشمل هذه النفقات الرعاية الصحية للعسكريين (50 مليار دولار سنوياً)، وجذب قدرات بشرية جديدة الى الجيش برواتب منافسة. كما أنه من الصعب العودة الى خفض شراء الأسلحة كما فعل كلينتون إذ إنه استفاد من البرامج العسكرية والمعدات التي نتجت من سياسة ريغان التسلحية خلال الحرب الباردة وهي لم تعد متوافرة اليوم إذ «إننا لا نملك معدات حديثة الصنع، يعتمد عليها وموثوقة». لذلك وافق البعض، كستيفين هادلي على الاقتطاعات بشرط أن تكون حذرة وبحسب طبيعة التهديدات والأولويات. لذا يجب الحذر من القيام بالاقتطاع من الحسابات غير الدفاعية (برامج وزارة الخارجية) لصالح الميزانية الدفاعية، لا سيما أن الولايات المتحدة تحتاج حالياً اكثر الى الأدوات غير العسكرية في سياستها الخارجية كما في العراق وأفغانستان واليمن والصومال «حيث نقوم بتجهيز وتدريب ودعم القوات المحلية، مشاركتهم الاستخبارات، ربما نستخدم بعض القدرات الجوية والقوات الخاصة. هذا هو النموذج الذي سنخوض من خلاله الحرب خلال السنوات العشر المقبلة».

في المقابل، حسم اوباما خياره في المقلب الآخر، الولايات المتحدة تريد قيادة العالم ولكن ليس تأسيس إمبراطورية، تقديم النموذج وليس الشرطي، المغنطيس وليس المطرقة، وإلا فإنّ الولايات المتحدة ستقع فريسة «فرط التوسع الإمبريالي». ربما يكون جوزيف ناي أفضل من لخص الخطوات المطلوبة، بالإضافة لتقليص الإنفاق العسكري، الحد من التدخل العسكري البري، الامتناع على سياسة «بناء الدول»، نقل المسؤوليات الى الحلفاء، إلا أنّ البداية تكون بإدراك ان قوة وتأثير أميركا في الخارج تبدأ من الخطوات التي نتخذها في الداخل، او ما يسميه أوباما «بناء الأمة الأميركية». يعتقد ناي انّ الولايات المتحدة تختلف عن بريطانيا بعدم رغبتها في بناء إمبراطورية، بل بأن تكون «مدينة مضيئة من على تلة»، لذا إنّ الإستراتيجية الذكية لحفظ قوة اميركا ودورها العالمي يجب أن تستند الى صياغة السياسة الخارجية بشكل «يناسب الملابس التي نملكها» كما يقول ناي. يتوافق كريستوفر بريبل (نائب مدير الدراسات الخارجية والأمنية في مؤسسة Cato) مع ناي بأنّ تضخم الميزانية الدفاعية ناتج من جزء منه من الاتكالية الأمنية عند حلفاء واشنطن التي كانت توجه موارد متزايدة لأداء دور الشرطي، «لذا فإن تراجع أميركا عن بعض أدوارها سيجبر حلفاءها على تحمل مسؤوليات متزايدة تجاه أمنهم»، وهو ما عبر عنه دوف زاخيم (مسؤول كبير سابق في البنتاغون) بالقول أثناء تدخل الناتو الأخير في ليبيا: «فلندع الآخرين يتحملوا كل الأعباء، ولو لمرة على سبيل التغيير فقط».

Obama-middle-eastيتم التعبير عن سياسة أوباما هذه «بالقيادة من الخلف» كما في ليبيا وسوريا، وقد انتجت هذه المقاربة هجوماً منسقاً وشرساً من الديموقراطيين، ومن جون ماكين وسارة بايلن وجون بولتون، إذ اتُهم أوباما باتباع باريس وأنّ عملية ليبيا كانت كارثة إستراتيجية. إلا أنّ ديفيد رمنيك (كاتب في مجلة «نيو يوركر») انتقد الجمهوريين إذ إنّهم في انتقادهم لسياسة أوباما الخارجية «لا يركزون على نتائج هذه السياسة بل على التشديد على قوة أميركا والتأكيد على مجدها». ويكمل رمنيك بأنّ «أوباما ليس أول رجل دولة يدرك أن من الأسهل تحقيق النصر إذا لم تحتج للإعلان بصوت عالي عن انتصارك». بناء على ما تقدم، لن تشهد سياسة أوباما تجاه الشرق الأوسط تحولاً بارزاً، سيبقى الحلفاء في الواجهة (تركيا ــ الخليج)، مع محاولة تعميق التحالف مع الإسلاميين، واعطاء ضمانات متزايدة للأمن الإسرائيلي مقابل الإمساك بقرارها الإستراتيجي، الى جانب تشديد الخناق على إيران عبر العقوبات والعزلة وبناء حلف «سني» موازن لها، والاستمرار باستنزاف النظام السوري والعمل على قضم سلطته تدريجياً وبحذر. إلا أنّ عرضاً أميركياً لتسوية كبرى مع إيران يبدو مرجحاً، إما من باب إيجاد مخرج للأزمة أو من باب الفرصة الأخيرة لإيران قبل الانخراط في عمل عسكري ضدها، إلا أنّ هذا العرض لن يتبلور قبل شهور، ولن يكون معزولاً عن تسوية الأزمة السورية.

يعتقد نوام تشومسكي أنّ معضلة واشنطن الحالية في الشرق الأوسط هي أنّ «تراجع قوتها لم ينتج تراجعاً في طموحاتها»، إذاً المشكلة عند الأميركيين هي في تشخيص أهدافهم ومصالحهم في الشرق الأوسط، كون واشنطن تنكر وتتجاهل حقوق شعوب المنطقة في السيادة السياسية والاقتصادية والخيار الثقافي، أي أنّ المشكلة ليست فقط في السياسات والأساليب. فالمشكلة ليست فقط في سياسات بوش العنيفة «الصلبة»، بل حتى في سياسات أوباما «الناعمة»، أي في «الرؤية النفقية» التي لا ترى في الشرق الأوسط أكثر من خزان للنفط. فقدت واشنطن حلم «الإمبراطورية» في الشرق الأوسط، واليوم تتنازعها رؤية «الشرطي» ورؤية «النموذج الملهم»، حتى ذلك يبدو عصياً بفعل دماء أطفالنا الموسومة «كالحنة» على يدي أميركا. هنا تحتاج واشنطن إلى قوة اخرى تشكل انعكاساً لها او ظلاً يخفي الملامح القبيحة، لذا تتقدم تركيا اليوم، تارة «كالشرطي»، كما في سوريا وليبيا، وتارة «كالنموذج الملهم» في مصر وتونس وغزة.

* باحث في العلاقات الدولية

الخيارات الإسرائيلية في ظل المتغيرات الجيو ـ إستراتيجية

مقال نُشر في الإنتقاد, بتاريخ 9 تشرين ثاني 2012

حسام مطر *


يبدو المشهد الإقليمي في أشد لحظاته تعقيداً وضبابية لا سيما في ظل الإنتفاضات والتحولات التي تعصف بالمنطقة العربية منذ ما يقارب السنة والنصف. لم تأت هذه من فراغ بل سبقها تحول عميق في البيئة الإقليمية وانقلاب جوهري في ميزان القوى الإقليمية بفعل الهزائم المدوية للمشروع الأميركي ـ الصهيوني في المنطقة لا سيما في العراق ولبنان وغزة. إن تراجع النفوذ الأميركي خلال السنوات الأخيرة أنتج فراغا في القوة إنعكس إنكشافاً لدى الأنظمة العربية التابعة له وهو ما أسس لإمكانية إزالة النظام العربي “القديم” الموالي لواشنطن كما حصل بالتحديد في تونس ومصر. في مواجهة هذا التحدي تبنت واشنطن سلسلة خطوات من أبرزها:

الخيارات الإسرائيلية في ظل المتغيرات الجيو ـ إستراتيجيةـ إتاحة المجال لدور تركي جديد في المنطقة قادر على موازنة الدور الإيراني من خلال قيادة تركيا لحلف سني نظراً لما تمتلكه من قدرات وإمكانات وموقع وارتباطها الإستراتيجي بحلف الناتو.
ـ دفع الدول الخليجية الى تحمل مسؤوليات إضافية ومباشرة في المواجهة الإقليمية وذلك من خلال مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية، إذ إن واشنطن لم تعد قادرة على تحمل اكلاف لعب الدور المباشر والكامل.
ـ رفع مستوى التنسيق الأمني والعسكري مع الكيان الصهيوني لمواجهة التحديات الأمنية المتزايدة من جبهات عدة، وهو ما تمت ترجمته بزيادة الدعم العسكري وبرنامج القبة الحديدية وتأكيد الإلتزام الأمني الكامل من قبل إدارة أوباما تجاه “إسرائيل”.
ـ إنتقال الولايات المتحدة الى “القيادة من الخلف” والإكتفاء بتقديم دعم دبلوماسي ولوجيستي لحلفائها في المنطقة، مع التركيز على القوة الناعمة بدل تلك الصلبة.
ـ لم تتمسك واشنطن بحلفائها الذين سقطوا بل سارعت الى محاولة التفاهم مع التيار الإسلامي الصاعد لصياغة تفاهم متبادل على مستوى القضايا الكبرى، ولكن رغم بعض التفاهمات الجزئية إلا ان عدم الثقة ما زال يحكم علاقة الطرفين.

لم يكن هذا التراجع في النفوذ الأميركي ممكناً لولا الهزيمة المدوية في تموز 2006 والتي كانت المحاولة الأميركية الأبرز للخروج من المأزق العراقي ومحاولة قلب الطاولة على سوريا وإيران اللتين أطبقتا على المشروع الأميركي في العراق في تلك المرحلة، وقد كان للانتصار في حرب تموز جملة مفاعيل بالغة الأهمية:
ـ كرست الحرب محدودية القوة الإسرائيلية في فرض وقائع سياسية تعكس مصالحها في المنطقة.
ـ لم يعد بإمكان “إسرائيل” شن أي حرب مستقبلية بعيداً عن الإرادة الأميركية، نظراً لاحتمالية تمدد أي معركة مقبلة الى المستوى الإقليمي وهو ما يستلزم دوراً أميركياً مباشراً.
ـ تحول “إسرائيل” الى عبء إستراتيجي على الغرب سواء مادياً أو معنوياً، وهو ما يثير إنقاسامات داخلية متزايدة في الغرب لا سيما الولايات المتحدة عن جدوى الدعم اللامشروط للكيان الصيهوني.
ـ إنتقال “إسرائيل” الى مستوى الردع الدفاعي، والإهتمام بتحصين الجبهة الداخلية وردع خصومها من الهجوم، بعدما فقدت القدرة على المبادرة الهجومية والحسم السريع.
ـ رفعت الحرب من وزن حزب الله الإستراتيجي في المعادلة الإقليمية.

كل هذه التحولات العميقة في توازنات المنطقة والتي ساهمت في تضرر صورة الولايات المتحدة وشرعيتها وإستنزافها إقتصاديا، فاقمت من الازمة الإقتصادية التي تعصف بالغرب منذ ثلاث سنوات. في مقابل هذا التراجع الأميركي ومحاولته الدفع بدور تركي ـ خليجي الى الواجهة برزت بقوة المصالح الروسية ـ الصينية على المستوى الدولي وخاصة في الشرق الأوسط نتيجة أهميته الجيو ـ إستراتيجية. تجد الصين أن الولايات المتحدة تظهر عدائية متزايدة تجاه صعودها وتدفع بمزيد من القوات والموارد باتجاه منطقة الباسيفيك، ولذا بدأت الصين تدرك بشكل متزايد حاجتها الى سياسة خارجية أكثر وضوحاً ودور أكثر فاعلية في الشرق الأوسط لموازاة الضغط الأميركي، إلا ان هذا التوجه ما زال في بداياته.
التغير الحقيقي هو في الموقف الروسي، حيث يجد الروس فرصة لاستعادة بعض النفوذ الدولي وممارسة دور متزايد في ظل محدودية القوة الأميركية. إلا أن الروس يتزايد إهتمامهم بالشرق الأوسط خوفا من خسارة ركيزتيهما المتبقيتين إيران وسوريا لحساب دور تركي أكبر يطمح للتمدد أيضا باتجاه آسيا الوسطى التي تصنف ضمن المجال الحيوي الروسي حيث تنشط الحركات الإسلامية الإنفصالية.

في ظل كل هذه التطورات أصبح قرار الحرب في المنطقة قراراً شديد التعقيد والخطورة والصعوبة باعتبار أن أي حرب ستكون مرشحة لتتوسع إقليمياً، وبالتالي لا بد لقرار الحرب أن تشترك فيه مجموعة دول إقليمية ودولية. في اللحظة الراهنة يبدو الخيار الإسرائيلي هو انتظار مآلات الأزمة السورية لأنها الأقل تكلفة كون “إسرائيل” ليست متورطة بها بشكل مباشر، ويمكن في حال سقوط النظام أن تتغير حسابات المعركة بالنسبة لها بالكامل، وهذا التقدير تشترك فيه مع الأميركي أيضاً. الإسرائيلي منشغل في دراسة التغييرات التي تطرأ على البيئة الأمنية الجديدة ودراستها وإعادة تشكيل سياسة دفاعية جديدة تتناسب معها ولكنه ما زال يعتبر التهديد الإيراني هو الأكثر حضوراً. وفي شأن الخيارات الإسرائيلية يمكن إيراد النقاط التالية:

ـ ان القرار الإسرائيلي بالحرب أصبح خاضعاً بنسبة كبيرة للموقف الأميركي في المنطقة ولا يمكن لـ”إسرائيل” الإنخراط في معركة بمعزل عن موافقة الولايات المتحدة، لذا لا يمكن تقدير الخيارات الإسرائيلية بمعزل عن سياسة واشنطن في الشرق الاوسط وأولياتها.
ـ تعتبر كل من “اسرائيل” والولايات المتحدة أن أي حرب إسرائيلية حالية على لبنان من شأنها تقويض الجهود الاميركية في سوريا وتعيد تعزيز شرعية المقاومة. كما أن هجوما كهذا قد يشكل ذريعة تتيح لمحور المقاومة توسعة الصراع بهدف تخفيف الضغط عن النظام السوري.
ـ هناك قلق إسرائيلي بعد زوال النظام المصري ووهن النظام الأردني لاحتمال أن دخول قوى عربية الى اي مواجهة مقبلة أصبح جدياً، إذ ان مبارك شكل ضامناً لمنع القوى المصرية من التدخل في الحروب السابقة ولكن الآن يمكن بسهولة لقوى عربية ان تتدخل في أي صراع بين حزب الله و”إسرائيل” أو حماس و”إسرائيل”.
ـ لكن يثار تساؤل حول إمكانية قيام “إسرائيل” بتوجيه ضربة محدودة لعمليات نقل سلاح كيميائي من سوريا الى لبنان، عند هذا المستوى من المحتمل جداً ان تبادر “إسرائيل” الى هذه الخطوة ولو بدون الموافقة الأميركية.
ـ من الإحتمالات الجدية هو توسع الصراع في سوريا الى صراع إقليمي وهذا ما يثير قلقاً من ناحية بالنسبة لـ”إسرائيل” كونها ستكون الهدف الأفضل لمحور المقاومة، ولكن في ذات الوقت هي تستعجل سقوط الأسد وترى أن التدخل الدولي في سوريا سيجعل “إسرائيل” تبدو في المحور الذي يضم قوى عربية وإسلامية بوجه إيران وحزب الله، وهو ما يخدم الدبلوماسية العامة الإسرائيلية مع الرأي العام العربي.
ـ الخيارات الإسرائيلية الحالية مرتبطة بما ستؤول إليه الأزمة السورية من ناحية، وبالملف النووي الإيراني من ناحية أخرى. تتحضر “إسرائيل” للسيناريو الأسوأ وتواصل إستعداداتها الميدانية، في حال فشل الغرب في إيقاف البرنامج النووي الإيراني ولم يتمكن من الإطاحة بالنظام السوري.
ـ يفترض البعض أن “إسرائيل” والولايات المتحدة ربما تستغل إنشغال النظام السوري وتضرر شرعية حزب الله على المستوى الإقليمي والإنقسام الداخلي حول السلاح والضغوط المتزايدة على إيران، للقيام بضربة عسكرية في ظل هذه الظروف المثالية، ولكن بالنظر لما اوردناه سالفاً يبدو هذا الإفتراض ضعيفاً.
ـ الخيار الإسرائيلي ـ الأميركي لهذه المرحلة هو الإستمرار في إستنزاف المقاومة لا سيما معنوياً وعزلها عن الرأي العام العربي وتعميق الإنقسام الداخلي حولها، وتكريس صورة جديدة للمقاومة كميليشيا مذهبية إجرامية تابعة لإيران، وذلك الى حين اكتمال شروط تنفيذ ضربة عسكرية.

في الخلاصة، ورغم الضجيج الذي يثار في أكثر من جبهة، تبقى التطورات السورية هي الفيصل في المرحلة المقبلة مع إمكانية متزايدة لتوسع الصراع الى المستوى الإقليمي. تبدو الولايات المتحدة حريصة على عدم توسع الصراع في هذه المرحلة لعدم إعطاء ذريعة لتدخل أكثر وضوحا للمقاومة وإيران وروسيا ولعدم تشتيت الإنتباه عن الساحة السورية لا سيما مع إعتقاد الإدارة الأميركية أن العقوبات والضغوط على إيران بدأت تؤتي أكلها. ولذا تضبط واشنطن القرار الإسرائيلي الإستراتيجي وتقيده في إنتظار إكتمال كافة الشروط لمسرح عمليات الحرب المقبلة على المستويات كافة.

* باحث في العلاقات الدولية

لماذا بري رئيساً لمجلس 2013

 مقال نشر على موقع قناة المنار بتاريخ 3\11\2012


حسام مطر

مع دخول الإستعدادات لمعركة الإنتخابات النيابية المقبلة عام 2013 , عاد فريق 14 آذار لتكرار معزوفة رفض تولي الرئيس نبيه بري لرئاسة البرلمان في حال حازت هذه القوى على الأكثرية النيابية.
في هذا السياق كان التصريح الأخير لرئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية سمير جعجع بعد عودته من السعودية حيث إلتقى بالنائب سعد الحريري وفيه قال: "الرئيس نبيه بري بتموضعه السياسي الحالي رغم احترامنا الشخصي له، لا يمكننا حمله في رئاسة المجلس...... نريد رئيساً للمجلس النيابي منسجماً مع الأكثرية الجديدة". فهل حقاً تستطيع قوى 14 آذار إقصاء الرئيس بري عن رئاسة المجلس في حال فوزها بالأكثرية النيابية؟ أم أن هذه الحملة مرتبطة بإنضاج تسوية حول قانون الإنتخابات أولاً ورئاسة الحكومة لاحقاً؟

النص الدستوري يتيح ل 14 آذار إمكانية إنتخاب بديل للرئيس بري في حال حازت الأكثرية, ولكن روحية النص والممارسة المستمرة وموازين القوى تقع جميعها في الإتجاه المقابل للنص. تبنى الدستور اللبناني صيغة محددة من الديموقراطية التوافقية وأرفقها بآليات لضمان التوازن الطائفي والمذهبي لجميع الأطراف, إلا ان إختلال موازين القوى الداخلية أدى الى إستفادة المسلمين من ذلك أكثر من المسيحيين. منذ بداية التسعينات تكرست الممارسة بأن رئاستي الحكومة والمجلس النيابي تذهب لمن يمثل الأكثرية لدى كل من السنة والشيعة, وعليه كان الرئيس بري منذ حينها رئيساً للمجلس النيابي, والرئيس الراحل رفيق الحريري رئيساً للحكومة ما عدا فترتين محددتين, هما الإستثناء الذي يؤكد المبدأ. مع العلم ان الرئيس الحريري لم يحظ حينها بتوافق مذهبي كالذي حازه الرئيس بري كمرشح للثنائية الشيعية, وكان خروجه في مرة منهما – او المرتين ربما - بقرار ذاتي من باب التكتيك الإنتخابي والسياسي.

وبما انه يمكن للبعض إرجاع تلك الممارسة الى الدور السوري الذي كان ضابطاَ للعملية السياسية, فيمكن الإحتجاج بالمقابل بإستمرار تلك الممارسة حتى مع خروج القوات السورية من لبنان. منذ العام 2005 حتى العام 2011 إحتفظ كل من الرئيس بري برئاسة المجلس حتى عندما فازت قوى 14 آذار بالأكثرية وإحتفظ تيار المستقبل ( السنيورة ثم سعد الحريري) برئاسة الحكومة, بداية من ضمن الإتفاق الرباعي الشهير ثم بإتفاق الدوحة, رغم ان أحداث الـ 7 من آيار وما سبقها من ممارسات إلغائية لحكومة السنيورة البتراء كانت تتيح للثنائي الشيعي خيارات أخرى.

من ناحية ثانية, حين جرى الإتفاق على الهوية المذهبية للرؤساء الثلاثة فإن روحية الطائف إفترضت انهم يحظون بتمثيل معتبر على الأقل داخل مذاهبهم, وإلا لأصبح إشتراط الهوية الدينية فارغاً من المعنى السياسي. لذا يُعتبر إقصاء مرشح الثنائية الشيعية عن رئاسة البرلمان إقصاءً لمن يمثل ما يقارب 90% من المقترعين الشيعة, وهو ما يخالف روحية التوافق الطائفي أو الديموقراطية التوافقية. إذاً كيف جرى إقصاء سعد الحريري عن رئاسة الحكومة قبل أن تنتقل الى الرئيس نجيب ميقاتي؟ إن إقصاء الحريري كان بسبب كسره قواعد اللعبة القائمة وليس بهدف خلق قواعد جديدة, بعد أن كسر الحريري قاعدة عدم الإعتداء على المقاومة, وذلك من خلال الإستقواء بالخارج عبر المحكمة الدولية, فموقف الحريري من القرار الإتهامي لا يقل دهاءً وخبثاً عن مقرارت 5 أيار الشهيرة. إذاً لم يكن موقف الثنائية الشيعية إنكاراً للقاعدة التي تكرس أحقية تيار المستقبل برئاسة الحكومة بل إعادة تكريس لقواعد اللعبة الداخلية وتوازناتها بعدما أراد الحريري تغيير كل ذلك عبر القرار الظني.

ولكن لماذا لا تنطبق هذه القاعدة على موقع رئاسة الجمهورية؟ اي رغم أن تكتل الجنرال ميشال عون حاز على 70% من التمثيل المسيحي في إنتخابات 2005 إلا انه جرى تجاوز ذلك بعدما جرى إنتخاب الرئيس ميشال سليمان خلفاً للعماد أميل لحود, فما تبرير ذلك؟ في الواقع هذا يعود الى جملة أسباب: أولاً هو ضعف المسيحيين وتهميشهم  في النظام اللبناني بعد إتفاق الطائف, وهو ما أتاح بدوره إخضاع الموقع للتسوية الإقليمية – الدولية بشكل كامل. ثانياً, أصبحت الرئاسة كضمانة للتوازن الإسلامي في النظام , كموزان بين رئيس المجلس الشيعي ورئيس الحكومة السني, وعليه كان لا بد من ضمان وجود رئيس محايد أي لا يلاقي إعتراض الطرفين المسلمين, بمعزل عن قوته التمثيلية. ثالثاً, أتاحت تحولات 2005 الخروج من هذا العجز, كان من الممكن لسمير جعجع وأمين الجميل تكريس حق المسيحيين بإختيار رئيسهم لو انهم أقروا بهذا الموقع للعماد عون حينها, ولكنهم بإختيارهم الوقوف بوجهه قضى جعجع على فرصة إعادة موقع الرئاسة الى المسيحيين فعلياً, وكذلك على إحتمال وصوله الى الرئاسة مهما كانت قوته التمثيلية المسيحية في المستقبل.

تدرك قوى 14 آذار كل ما تقدم ولكنها تستخدم مقولة "إقصاء بري" من باب الإبتزاز, مرة من باب عودة سعد الحريري الى رئاسة الحكومة ومرة من باب قانون الإنتخاب, والتصريح الأخير لجعجع لا يخرج عن هذا السياق. في الواقع لا تملك قوى 14 آذار إلا القليل من أوراق القوة التي يمكنها وضعها على طاولة اللعبة الداخلية, لذا لا تجد بداً من إستجلاب أرواق إفتراضية من المستقبل القريب, كالتهويل بعدم دعم وصول بري الى رئاسة المجلس. بكل الأحوال لا يمكن ل 14 آذار ان تمتلك من الأصوات ما يؤهلها للتحكم بمصير رئاسة المجلس النيابي, إذا أن النائب وليد جنبلاط وميقاتي والوسطيين لن يغامروا مطلقاً في السير ضد بري في رئاسة المجلس, وهي الكتلة التي يُرجح أن تكون "بيضة قبان" المرحلة المقبلة أيضاً.

إذاً, بمعزل عن تقييم آداء الرئيس بري, سلباً او إيجاباً, أو الموقف من النظام اللبناني, فبحسب قواعد اللعبة اللبنانية والممارسة السياسية المستقرة وطبيعة النظام السياسي, فضلاً عن توازنات القوة والتمثيل, الرئيس المقبل لمجلس النواب اللبناني هو من ستسميته الثنائية الشيعية أي الرئيس بري. هنا ينبغي القول أن " ناقل الكفر ليس بكافر", هذا هو نظامنا السياسي, ولكن حين نتكلم بالطموحات يصبح من نافلة القول اننا أمام نظام سياسيء مهترىء, ظالم, ومسدود الأفق, وبقاؤه بشكله الحالي متحقق بفعل شبكة الأمان الإقليمية- الدولية فقط. المتاح في المدى المنظور هو إصلاحات متدرجة جزئية قطاعية من خلال إستغلال أي فجوات في النظام او تشابك مصالح مؤقت, قانون الإنتخاب قد يكون البداية الأفضل لهذا المسار.