لا زال الصعود الصيني يشكل الهاجس الأكبر للعقل الإستراتيجي الأميركي, والذي يشغله سؤال محوري, هل يمكن ان يستمر الصعود الصيني سلمياً أو أنه سينتج صداماً لا مفر منه؟ لا تتردد المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية (ذات الأصل الأميركي) في الإجابة بتأكيد أن الصعود الصيني سيفقد طابعه السلمي في لحظة ما, إذ لا يمكن أن ينعكس تراكم القوة المادية ( عسكريا وإقتصادياً) إلا بسلوك عدواني توسعي, مما يحتم التصادم بين قوة الهيمنة الحالية ( الولايات المتحدة) والقوة الصاعدة أي الصين, فالصين ليست دولة ستاتيكو أو لن تبقى كذلك في احسن الأحوال. الوقائع المتلاحقة تدعم هذه النظرية, إعتبار الصين أن كل بحر الصين الجنوبي هو من ضمن مصالحها الحيوية, تجدد التوترات مع اليابان حول بعض الجزر المتنازع عليها وتعليق صادرات المعادن النادرة إليها, تحدي التحركات الأميركية في منطقة الباسيفيك, إعتبار المناورات البحرية بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية بمثابة تهديد , حرب العملات, الهجمات المنظمة عبر الانترنت, وثم الزيادات المتلاحقة في الميزانية العسكرية الصينية.
فقد أقرت الصين منذ أيام ميزانيتها العسكرية الجديدة البالغة 91.5 مليار دولار أي ما يعني زيادة بنسبة حوالي 12%, فيما كانت زيادة العام الماضي بنسبة 7.5% , مما يشير الى عودة الصين الى معدل الزيادة السنوية والذي يبلغ حوالي 13% منذ العام 1989. إلا ان الأميركيين يعتقدون أن الزيادة الحقيقة في الميزانية العسكرية هي أعلى بكثير, فبناء على تقرير لمؤسسة المشروع الاميركي لأبحاث السياسة العامة فإن الصين أعلنت العام الماضي ان ميزانيتها العسكرية تبلغ 87.6 مليار دولار فيما قدر البنتاغون أن الرقم الحقيقي يقارب 150 مليار دولار. وبالرغم من أن الميزانية العسكرية الصينية تبلغ خمس الميزانية الأميركية إلا أنه ما يقلق الأميركيين هو تركيز الصين لقدراتها العسكرية على منطقة شرق آسيا بينما تتشتت القدرات الأميركية في أنحاء المعمورة, مما يعني ان ما تخصصه الصين لمنطقة آسيا – الباسيفيك هو أضعاف ما ترصده الولايات المتحدة للهدف ذاته. وما يضاعف القلق الأميركي هو نوعية التسلح الصيني الذي يتركز حول تطوير منظومات الصواريخ الإستراتيجية والباليستية, دفاعات جوية س-300, طائرات هجومية توازي نظيراتها الاميركية, غواصات ذات قدرات نووية, وبخلاف توقعات الكثيريين في السنوات الماضية فإن الصين أطلقت برامج لصنع حاملات طائرات, بالإضافة الى الإهتمام بالحرب السيبرية وأنظمة الأقمار الإصطناعية وأنظمة المراقبة وجمع المعلومات. يخلص التقرير أعلاه الى تعزز ملحوظ في القدرة الصينية على نقل القوة والقوات الى الممرات البحرية والجوية الإستراتيجية للتجارة والأمن والى المناطق ذات النفوذ الأميركي كمنطقة المحيط الهندي والخليج, وذلك لملىء أي فراغ يخلفه تراجع الإمبراطورية الأميركية, مما يعزز بالمقابل حالة عدم الإستقرار والإحتكاك لا سيما في منطقة آسيا – الباسيفيك.
إلا أن قضية تايوان تبقى المحك الأصعب أو المؤشر لمسار العلاقات الصينية- الأميركية. فبالنسبة للصين تشكل تايوان القضية القومية الأولى التي لا مساومة عليها بالإضافة الى أهميتها الإستراتيجية جيوبوليتكياً وإيكو- بوليتيكاً, اما بالنسبة للولايات المتحدة فقضية تايوان تشكل حجر الزاوية لسياستها في تلك المنطقة لسببين أساسيين, اولاً أن العقل الأميركي الذي يهيمن عليه مبدأ "توازن القوى" يعتقد أن هذا المبدأ هو السبيل الوحيد لمواجهة الصعود الصيني وليس "الإنخراط والحوار" كما تعتقد القلة, وتايوان ركن أساسي في توازن القوى الأميركي, ثانياً تحاول الولايات المتحدة جاهدة إبراز مصداقيتها تجاه حلفائها بحفظ مصالحهم في المنطقة من خطر الصعود الصيني, وعليه سيعتبر أي تراجع أميركي في قضية تايوان بمثابة ضربة قاتلة للحلف الأميركي في شرق آسيا لا سيما مع اليابان وكوريا الجنوبية.
في هذا السياق كتب شارلز غلاسر ضمن مقال بعنوان" هل سيؤدي الصعود الصيني الى حرب" في مجلة "فورين أفيرز" داعياً الى سحب الولايات المتحدة لإلتزاماتها الأمنية تجاه تايوان التي تشكل نقطة الإحتكاك والتوتر الرئيسية مع الصين, مما سيؤدي بالنتيجة الى تعبيد الطريق أمام التعاون الصيني الأميركي ويبعد شبح المواجهة بينهما. يحاجج غلاسر بأن قضية تايوان لا حل دبلوماسي لها بل ويمكن ان تشعل حرباً نووية نظراً لقيمتها القومية بالنسبة للصينيين الذين يرونها قطعة من وطنهم لا يمكن التنازل عنها, وعليه سيؤدي الرضوخ الأميركي بخصوص تايوان الى إشباع "الشهية" الصينية على إعتبار أن ليس كل الخصوم هم على مثال هتلر (أي يمكن إشباعهم ببعض التنازلات) ولأن مطالب الصين الأقاليمية (ليس الإقليمية) محدودة ومحددة. يعتبر غلاسر أن الولايات المتحدة فشلت ولا زالت تفشل في إدراك أن مصالحها في المنطقة منسجمة مع المصالح الصينية ولا حاجة لممارسة سياسات تنافسية او إستفزازية, بل يكفي الولايات المتحدة لضمان مصالحها في المنطقة, الحفاظ على تحالفاتها مع دول كاليابان وكوريا الجنوبية وتعزيز الردع التقليدي والنووي, وعليه لا تشكل تايوان مصلحة حيوية للولايات المتحدة وبالتالي يفضل التخلي عنها.
ولكن سرعان ما انهالت الردود القاسية على هذه الإفتراضات لا سيما من الواقعيين الذين لم يجدوا في تحليل غلاسر ما يدعمه من التجارب التاريخية, فالقوى الصاعدة كما كتب غاري شميت ولا سيما الدكتاتورية منها هي شبية لهتلر كما حال اليابان أيضا في عصرها الامبريالي, وعليه فالخضوع مقابل هذه القوى الصاعدة سينتج مفعولاً عكسيا أي يفتح "شهيتها" لإبتلاع مناطق نفوذ جديدة على حساب القوة المتقهقرة. وبالتالي لا مجال لمواجهة الصين إلا بالردع ذات المصداقية والحفاظ على توازن القوى, عبر تمتين القيادة الأميركية عسكرياً وسياسياً في المنطقة, تاسيس علاقات إستراتيجية مع القوى الديموقراطية الصاعدة كالهند وأندونيسيا, والأهم إعادة التوازن العسكري في مضيق تايوان بعدما إختل لمصلحة الصين بفعل السياسات الأميركية المتعاقبة, بحيث ترسم الولايات المتحدة خطاً أحمر يمر عبر تايوان والذي يجب على الصين الامتناع عن تجاوزه. ويشير تقرير أميركي تم تحديثه عام 2009 الى هذا الإختلال حيث يرجح أن تنهي الصين الحرب الجوية في المواجهة حول تايوان قبل حتى أن تتمكن القوة الجوية الزرقاء ( إشارة الى تايوان والولايات المتحدة) من إطلاق طلقة واحدة", مما يعاكس كل توقعات السنوات الماضية.
ويكمل آخرون الهجوم على غلاسر بإستعراض مقاربة إدارة أوباما للعلاقة مع الصين والتي توصف بأنها تستند الى إفتراضات غلاسر, ورغم ذلك لم تكن النتائج إلا تدهوراً متزايداً. يقول دان بلومينثال في ال "فورين بوليسي" أن مقاربة أوباما القائمة على " اعادة الإطمئنان الإستراتيجي" مع الصين عبر تأكيد عدم الرغبة الاميركية في إحتواء الصين وتبني قانون "العلاقات مع تايوان" والذي كان بمثابة تخلي عن تايوان وثم عدم القيام بما يعزز أمنها, كلها لم تسفر إلا عن نتائج عكسية فاقمت العلاقات بين الطرفين. من الواضح ان هاجس الصدام بين القوتين الصاعدة والمهيمنة, في منطقة الثقل العالمي إقتصادياً وسكانياً سيطغى على نقاشات السنوات القادمة التي يرجح ان تشهد توترات متكررة تهدد حال الإستقرار النسبي الذي ساد لسنوات طوال, على أن طبيعة الدور الإميركي كقوة عالمية ستتحدد في جوانب أساسية منها على خلاصة الكباش الذي يجري في منطقة آسيا- الباسيفيك.
حسام محمد مطر
نيسان 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق