نُشرت هذه المقالة في صحيفة السفير, 12038, 14 تشرين الثاني 2011
يمر الشرق الأوسط ومعه العالم في هذه الأيام بلحظات محمومة في ظل التهديدات الإسرائيلية الصاخبة بشأن مهاجمة إيران بحجة امتلاكها أو سعيها لامتلاك أسلحة نووية, إلا أن تفحص مختلف جوانب القضية بهدوء وعقلانية يؤدي الى النفي الحاسم لإمكان تحول هذه التهديدات الى عمل عسكري واقعي في المدى المنظور وذلك لجملة اعتبارات عملياتية واستراتيجية. فالموقف الإسرائيلي الحالي هو سيناريو مكرر للضغط على القوى الدولية، وبالتحديد الصين وروسيا، للسير في رزمة عقوبات جديدة في مجلس الأمن على خلفية التقرير الأخير للوكالة الدولية للطاقة النووية, وهي عقوبات يُفترض أن تكون قاسية لأقسى حد في لحظة الانسحاب الأميركي من العراق بما يضمن «منع» إيران من استغلال ذلك لمزيد من التمدد والنفوذ.
ولكن رغم كل هذا, من قال إن السياسة تُصنع فقط بالمنطق والعقل بل لطالما أدى «الجنون» أو بالحد الأدنى «الغباء» الى مواجهات عسكرية طاحنة أبادت شعوباً وأمماً, ولذلك لا بد دوماً، ورغم كل المعطيات الموضوعية، المحافظة على هامش للحسابات غير العقلانية التي تفرزها جملة من العوامل والمؤثرات, والتي سنشير الى أخطرها وهي ما أصبح يُعرف بـ«نظرية روبيكون للحرب».
النظرية هي خلاصة عمل كل من دومينيك جونسون ودومونيك تيرني في دراستهما التي نُشرت عبر مجلة «الأمن الدولي» لعدد صيف 2011. إن تسمية «الروبيكون» مردها الى نهر إيطالي, وقصته أنه خلال عهد الإمبراطورية الرومانية كان يُمنع على أي جنرال أن يعبر بجيشه هذا النهر باتجاه روما وإلا أصبحت الحرب أمراً حتمياً وهو ما فعله يوليوس قيصر, ومذ حينها أصبحت عبارة «روبيكون» إشعاراً بأن الأمور تجاوزت خط اللاعودة. قام الباحثان المذكوران بدراسة رصينة لمحاولة فهم كيف يمكن أن يؤثر اعتقاد طرف ما أنه تجاوز نقطة اللاعودة «الروبيكون» في مواجهة ما, على سلوكه وتصوراته وحساباته بشأن نتائج تلك المواجهة.
خلص الباحثان الى نتيجة لافتة وهامة وهي أنه عندما يعتبر طرف ما أن الحرب أصبحت واقعة لا محالة ـ بمعزل عما إذا كان ذلك صحيحاً ام لا - فإنه يكون قد تجاوز «الروبيكون النفسي», وهو ما يؤدي تلقائياً الى تحول ذهني ونفسي يُنتج «ثقة مفرطة بالذات» وهو ما يجعل هذا الطرف يستخف بالمعلومات التي يحصل عليها, ويبالغ في تقدير قوته ويتجاهل نقاط ضعفه, ويتوهم بقدرته العالية على التحكم والسيطرة كما يفرط في تفاؤله, كل ذلك يدفع الى جعل الحرب أمراً فعلياً بالإضافة الى دفع الطرف المعني الى وضع خطط عسكرية عالية الخطورة والمجازفة.
بمعنى آخر, رغم عدم حصول أي تغييرات حقيقية في قدرات طرف ما, إلا أنه يتوهم بفعل «الروبيكون النفسي» وتنقلب تقديراته بشكل مفرط في التفاؤل والثقة بشكل يشجعه على المجازفة والمخاطرة والعدوانية بما يؤدي واقعاً الى الحرب. يناقض هذا التحول كلياً نظرية «الخيار العقلاني» التي تفترض أن يحافظ اللاعب السياسي على تقديراته بشأن نتائج أي مواجهة مفترضة ما لم تتغير ظروف هذه المواجهة وقدرات أطرافها. وقد أظهر الباحثان أثناء عرض أدلتهما التغييرات التي طرأت على الرأي العام الأميركي عشية حرب الخليج 1991 وغزو العراق 2003 حيث أظهرت الأرقام المتعلقة بإمكانية انتصار أميركا ارتفاعاً حاداً خلال الشهور الأخيرة التي سبقت الحرب.
وعليه ينبغي الحذر من أن تؤدي التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة والردود الإيرانية عليها الى دفع أحدهما الى الاعتقاد أن المواجهة العسكرية أصبحت واقعة لا محالة, أي أن يتجاوز «الروبيكون النفسي» بما يدفعه الى تجاهل المعطيات الواقعية واستصغار قدرات الخصم والإفراط في التوقعات الإيجابية للمواجهة وتضخيم تقديراته لنقاط قوته وقدرته على التحكم, بما من شأنه دفعه نحو المبادرة الى الحرب. لذا يجب على صناع القرار اتخاذ إجراءات وقائية لعدم الوقوع في فخ «الروبيكون النفسي», كما ينبغي على المحللين والباحثين التنبه الى أن المعطيات الواقعية والعقلانية غير كافية للجزم بعدم وقوع الحرب وذلك من خلال الإبقاء على هامش ولو محدودا للاعتبارات «غير العقلانية» ولا سيما متى كان الحديث عن الشرق الأوسط «سيد المفاجآت».
حسام مطر - باحث لبناني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق