نشرت هذه المقالة في صحيفة الأخبار, العدد 1613, 19 كانون الثاني 2012
أعلنت المملكة السعودية أخيراً نيتها إطلاق برنامجها النووي، عبر تصريح وزير التجارة والصناعة عبدالله زينل، الذي قال بأنّ المملكة ستنفق 375 مليار ريال (100 مليار دولار) لإقامة 16 محطة طاقة نووية لتوليد الطاقة الكهربائية في مختلف أنحاء المملكة. أمر أعاد تأكيده سعود الفيصل بالإشارة الى أنّ «دول مجلس التعاون تدرس اقتصاديات الطاقة النووية». إلا أنّ توقيت الإعلان يرتبط وثيقاً بجملة حسابات ذات طابع سياسي وأمني واستراتيجي، وهو ما سيترك، فيما لو تحقق، جملة تداعيات على المنطقة، لا سيما على صعيد مسألة الانتشار النووي. ويمكن البحث في هذا العنوان عبر ارتباطه بالتحوّل الاستراتيجي في ميزان القوى في الشرق الأوسط، وتطوّرات الملف النووي الإيراني، والأمن الإسرائيلي، والحسابات السياسية للنظام السعودي.
لا شك في أنّ القدرات المالية للسعودية تتيح لها القيام بمشروع كهذا يُرجح أن يكون ذا بُعد خليجي أيضاً، لا سيما بعد دعوة الملك السعودي دول مجلس التعاون الى الانتقال إلى حالة من الوحدة السياسية. ليس من المستغرب أن تصدر تلك الدعوة من السعودية باعتبارها نواة الخليج ومركز الثقل فيه، بالإضافة الى طبيعة اللحظة السياسية في المنطقة، إذ يشعر الخليجيون باليتم والانكشاف. في ذلك السياق، يمكن اعتبار الطموح النووي جزءاً من الطرح السعودي لفكرة الوحدة الخليجية باعتبار أنّ طرح الوحدة لا يمكن تقديمه إلا على أرضية من التكامل الاقتصادي، والرؤية الأمنية والسياسية، والتوافق على فكرة الهوية والدور. في المقابل، تعاني المملكة نقصاً مهولاً في القدرات البشرية المختصة والكفاءات العلمية، ولذا سيكون كل البرنامج النووي خاضعاً بالكامل لجهات أجنبية، بعكس ما هي الحال عليه في إيران.
في المقابل، لطالما استند الجناح الأميركي الداعي الى مهاجمة إيران والرافض لفكرة القبول بها دولة نووية، الى حجة مفادها أنّ ذلك الاعتراف سيشجع دولاً عدة في الشرق الأوسط على السعي، وبدوافع أمنية، الى إطلاق برامجها النووية الخاصة. وهو ما يناقض تماماً سياسة واشنطن في الحد من الانتشار النووي، لا سيما في منطقة تكثر فيها الأصوليات والدول الضعيفة والتوترات الأمنية. لذا يبدو من هذه الناحية أنّ القرار السعودي إما مرتبط بالتيقن من أنّ إيران قطعت نقطة اللاعودة تجاه برنامجها النووي في ظل رضوخ القوى الدولية والإقليمية لهذه الحقيقة، وعجزها عن القيام بأي مبادرة عسكرية، وإما أن الرياض تسعى الى استفزاز الولايات المتحدة وإسرائيل ودفعهما الى اتباع سياسة أكثر تشدداً تجاه طهران. لكن المرجح أنّ الرياض بدأت تدرك أنّ الالتحاق بالمشروع الأميركي لم يعد يشكل ضمانة كافية لها، إذ تعلن واشنطن أنّها بصدد التحرر من أعباء الشرق الأوسط، وأنّ على حلفائها تحمّل مسؤوليات متزايدة لتأمين مصالحهم وأمنهم.
وعليه، سينطلق معارضو المشروع في واشنطن من منطلقات ثلاثة: الأول هو الخوف من وقوع مواد نووية في أيدي متطرفين سعوديين او تسلّمهم للسلطة في ظل نظام سياسي هش ومضطرب، وهي ذاتها المخاوف التي تسيطر على العلاقة الباكستانية ــ الأميركية. وثانياً سيحاجج هؤلاء بالخطر الجدي من عسكرة هذا البرنامج، بما يشكل تهديداً مباشراً لميزة التفوّق الاستراتيجي الإسرائيلي في المنطقة. وثالثاً يمكن أن تؤدي الخطوة السعودية الى تكريس سباق تسلح نووي جنوني في الشرق الأوسط بأسره.
أما سعودياً، فتكمن إحدى خلفيات المشروع في حاجة المملكة الى كسر الصورة النمطية التي ترسخت حولها باعتبارها دولة ذات نظام رجعي، ريعي، فاسد، تابع وملحق، ومعاد للحداثة والتطور والعلم. وهو واقع أنتج ضعفاً شديداً في القوة الناعمة السعودية التي تنحصر بالتبشير المذهبي والضخ المالي، وهو ما ادى الى افتقاد المملكة لقدرة التأثير والجذب واستمالة القلوب والعقول، وبالتالي القدرة على النفوذ والتوسع والتأثير على لحظات التحوّل الإقليمية. لقد شكل الربيع العربي الاختبار الأهم لمحدودية القوة الناعمة السعودية، إذ إنّ المملكة، ورغم قدراتها المالية المذهلة، تحتلّ خلفية المشهد، فيما قطر وتركيا تتحركان بحرية أكبر وقدرة افضل على التأثير على مجريات التحوّل الحالي في المنطقة. بناءً عليه، ادرك السعوديون مدى حاجاتهم الى كسر الصورة النمطية التي صبغت المملكة ذاتها بها، وهو هدف يحتاج الى مبادرات استثنائية. وما دام النظام ليس في وارد المس بتركيبة السياسات الداخلية فلم يبق سوى محاولة خلق مبادرات في مجالات أخرى لا تهدد سيطرة النظام على المجتمع السعودي. في هذا السياق يريد النظام السعودي دفع فكرة المشروع النووي الى الواجهة باعتباره الأداة الأساسية في إعادة تكوين القوة الناعمة السعودية، خاصة في هذه اللحظة العربية التي يشعر السعوديون معها كأنّهم «منارة من دون ضوء».
إذاً، لا تستهدف المبادرة السعودية إيران بقدر ما تسعى الى تعزيز شرعية النظام الداخلية وشدّ عصب الالتحام الشعبي حول القيادة السعودية التي تعيش تحت وطأة عدم اليقين والتنافس الخفي والترهل السياسي، كما تهدف لتقوية حضورها الإقليمي لا سيما مع بروز قوى إقليمية لا يمكن للمملكة مواجهتها من خلال الخطاب المذهبي، وبالتحديد تركيا ومصر. بالمحصلة، يجب أن يدرك النظام السعودي أنّ مشكلته أعمق بكثير من حاجته إلى برنامج نووي، وأنّه حتى مع افتراض حصوله على القدرات النووية فإنّه لن يتمكن من تجاوز أزماته ما لم يقم بإعادة صياغة جوهرية لهوية الدولة، وشرعية النظام، وطبيعة دور المملكة. لا تنحصر مشكلة النظام السعودي في ظاهره وشكله الخارجي، لذا لن تجدي عمليات التجميل السياسية كثيراً، فالنظام لا يعاني فقط من « قباحة وجهه» بل الأهم، من سوداوية «قلبه»، وإصلاح القلب أولى، إن أمكن.
* حسام مطر - كاتب لبناني
أعلنت المملكة السعودية أخيراً نيتها إطلاق برنامجها النووي، عبر تصريح وزير التجارة والصناعة عبدالله زينل، الذي قال بأنّ المملكة ستنفق 375 مليار ريال (100 مليار دولار) لإقامة 16 محطة طاقة نووية لتوليد الطاقة الكهربائية في مختلف أنحاء المملكة. أمر أعاد تأكيده سعود الفيصل بالإشارة الى أنّ «دول مجلس التعاون تدرس اقتصاديات الطاقة النووية». إلا أنّ توقيت الإعلان يرتبط وثيقاً بجملة حسابات ذات طابع سياسي وأمني واستراتيجي، وهو ما سيترك، فيما لو تحقق، جملة تداعيات على المنطقة، لا سيما على صعيد مسألة الانتشار النووي. ويمكن البحث في هذا العنوان عبر ارتباطه بالتحوّل الاستراتيجي في ميزان القوى في الشرق الأوسط، وتطوّرات الملف النووي الإيراني، والأمن الإسرائيلي، والحسابات السياسية للنظام السعودي.
لا شك في أنّ القدرات المالية للسعودية تتيح لها القيام بمشروع كهذا يُرجح أن يكون ذا بُعد خليجي أيضاً، لا سيما بعد دعوة الملك السعودي دول مجلس التعاون الى الانتقال إلى حالة من الوحدة السياسية. ليس من المستغرب أن تصدر تلك الدعوة من السعودية باعتبارها نواة الخليج ومركز الثقل فيه، بالإضافة الى طبيعة اللحظة السياسية في المنطقة، إذ يشعر الخليجيون باليتم والانكشاف. في ذلك السياق، يمكن اعتبار الطموح النووي جزءاً من الطرح السعودي لفكرة الوحدة الخليجية باعتبار أنّ طرح الوحدة لا يمكن تقديمه إلا على أرضية من التكامل الاقتصادي، والرؤية الأمنية والسياسية، والتوافق على فكرة الهوية والدور. في المقابل، تعاني المملكة نقصاً مهولاً في القدرات البشرية المختصة والكفاءات العلمية، ولذا سيكون كل البرنامج النووي خاضعاً بالكامل لجهات أجنبية، بعكس ما هي الحال عليه في إيران.
في المقابل، لطالما استند الجناح الأميركي الداعي الى مهاجمة إيران والرافض لفكرة القبول بها دولة نووية، الى حجة مفادها أنّ ذلك الاعتراف سيشجع دولاً عدة في الشرق الأوسط على السعي، وبدوافع أمنية، الى إطلاق برامجها النووية الخاصة. وهو ما يناقض تماماً سياسة واشنطن في الحد من الانتشار النووي، لا سيما في منطقة تكثر فيها الأصوليات والدول الضعيفة والتوترات الأمنية. لذا يبدو من هذه الناحية أنّ القرار السعودي إما مرتبط بالتيقن من أنّ إيران قطعت نقطة اللاعودة تجاه برنامجها النووي في ظل رضوخ القوى الدولية والإقليمية لهذه الحقيقة، وعجزها عن القيام بأي مبادرة عسكرية، وإما أن الرياض تسعى الى استفزاز الولايات المتحدة وإسرائيل ودفعهما الى اتباع سياسة أكثر تشدداً تجاه طهران. لكن المرجح أنّ الرياض بدأت تدرك أنّ الالتحاق بالمشروع الأميركي لم يعد يشكل ضمانة كافية لها، إذ تعلن واشنطن أنّها بصدد التحرر من أعباء الشرق الأوسط، وأنّ على حلفائها تحمّل مسؤوليات متزايدة لتأمين مصالحهم وأمنهم.
وعليه، سينطلق معارضو المشروع في واشنطن من منطلقات ثلاثة: الأول هو الخوف من وقوع مواد نووية في أيدي متطرفين سعوديين او تسلّمهم للسلطة في ظل نظام سياسي هش ومضطرب، وهي ذاتها المخاوف التي تسيطر على العلاقة الباكستانية ــ الأميركية. وثانياً سيحاجج هؤلاء بالخطر الجدي من عسكرة هذا البرنامج، بما يشكل تهديداً مباشراً لميزة التفوّق الاستراتيجي الإسرائيلي في المنطقة. وثالثاً يمكن أن تؤدي الخطوة السعودية الى تكريس سباق تسلح نووي جنوني في الشرق الأوسط بأسره.
أما سعودياً، فتكمن إحدى خلفيات المشروع في حاجة المملكة الى كسر الصورة النمطية التي ترسخت حولها باعتبارها دولة ذات نظام رجعي، ريعي، فاسد، تابع وملحق، ومعاد للحداثة والتطور والعلم. وهو واقع أنتج ضعفاً شديداً في القوة الناعمة السعودية التي تنحصر بالتبشير المذهبي والضخ المالي، وهو ما ادى الى افتقاد المملكة لقدرة التأثير والجذب واستمالة القلوب والعقول، وبالتالي القدرة على النفوذ والتوسع والتأثير على لحظات التحوّل الإقليمية. لقد شكل الربيع العربي الاختبار الأهم لمحدودية القوة الناعمة السعودية، إذ إنّ المملكة، ورغم قدراتها المالية المذهلة، تحتلّ خلفية المشهد، فيما قطر وتركيا تتحركان بحرية أكبر وقدرة افضل على التأثير على مجريات التحوّل الحالي في المنطقة. بناءً عليه، ادرك السعوديون مدى حاجاتهم الى كسر الصورة النمطية التي صبغت المملكة ذاتها بها، وهو هدف يحتاج الى مبادرات استثنائية. وما دام النظام ليس في وارد المس بتركيبة السياسات الداخلية فلم يبق سوى محاولة خلق مبادرات في مجالات أخرى لا تهدد سيطرة النظام على المجتمع السعودي. في هذا السياق يريد النظام السعودي دفع فكرة المشروع النووي الى الواجهة باعتباره الأداة الأساسية في إعادة تكوين القوة الناعمة السعودية، خاصة في هذه اللحظة العربية التي يشعر السعوديون معها كأنّهم «منارة من دون ضوء».
إذاً، لا تستهدف المبادرة السعودية إيران بقدر ما تسعى الى تعزيز شرعية النظام الداخلية وشدّ عصب الالتحام الشعبي حول القيادة السعودية التي تعيش تحت وطأة عدم اليقين والتنافس الخفي والترهل السياسي، كما تهدف لتقوية حضورها الإقليمي لا سيما مع بروز قوى إقليمية لا يمكن للمملكة مواجهتها من خلال الخطاب المذهبي، وبالتحديد تركيا ومصر. بالمحصلة، يجب أن يدرك النظام السعودي أنّ مشكلته أعمق بكثير من حاجته إلى برنامج نووي، وأنّه حتى مع افتراض حصوله على القدرات النووية فإنّه لن يتمكن من تجاوز أزماته ما لم يقم بإعادة صياغة جوهرية لهوية الدولة، وشرعية النظام، وطبيعة دور المملكة. لا تنحصر مشكلة النظام السعودي في ظاهره وشكله الخارجي، لذا لن تجدي عمليات التجميل السياسية كثيراً، فالنظام لا يعاني فقط من « قباحة وجهه» بل الأهم، من سوداوية «قلبه»، وإصلاح القلب أولى، إن أمكن.
* حسام مطر - كاتب لبناني