نشرت هذه المقالة عبر موقع الإنتقاد بتاريخ 17-1-2012
شكلت التفجيرات الانتحارية الأخيرة في دمشق مؤشراً على دخول المواجهة في سوريا مرحلة جديدة بأبعاد متعددة. لقراءة هذه الأبعاد لا بد من مراجعة موجزة للأدبيات النظرية حول الغايات السياسية للفعل الإرهابي، أي ما هي الغايات السياسية التي تسعى خلفها المنظمات التي تستعمل تكتيكات إرهابية داخل مجتمع ما؟ وانطلاقاً من هذه الغايات يمكن تحليل الدلالات السياسية للهجمات الانتحارية التي تعرضت لها دمشق في الأسبوعين الأخيرين عدا عن جريمة جامعة دمشق. وبالتأكيد لن نسعى للخوض في فرضية "تآمر النظام على نفسه"، فإثبات ذلك أمر "دونه خرط القتاد" كما تقول العرب، بل ندرس الفرضية الأكثر رجوحاً ووضوحاً ومصداقية الى حين ثبوت العكس.
لقد أدت هجمات 11 ايلول وما تلاها من تفجيرات في بعض العواصم الأوروبية الى تراكم كمّ مذهل من الدراسات التي سعت للكشف عن الأهداف السياسية التي تبتغيها المنظمات من وراء أعمال "ذات طابع إرهابي" كمهاجمة التجمعات البشرية والعمليات الانتحارية. وقد اتجهت هذه الدراسات المختصة الى أن هذه المنظمات تستعمل العنف المفرط وغير المتوقع والمثقل بالصدمة والترويع والضحايا، بهدف تحقيق أربع غايات سياسية رئيسية: التعبئة، تعميق الإنقسام والفرز الداخلي، ونشر الخوف. إستفزاز السلطة الحاكمة واستنزافها. ونشير بادئ ذي بدء الى أن إستخدامنا لكلمة "إرهاب" يعني أسلوب العمل العنفي الذي يهدف لبث الرعب والذعر العام داخل مجتمع ما, بمعزل عن البُعد القانوني او الأخلاقي.
الغاية الأولى، هي سعي المنظمة أو الجهة المنفذة الى رفع مستوى التعبئة والمناصرة والإلتفاف حولها في بيئة محددة بما يؤمن للمنظمة قدرة تجنيد واحتضان اجتماعي وتأييد سياسي متزايد، إذ إن هذه الهجمات تزيد الثقة بالجهة المنفذة بين جمهورها وربما بين المترددين. لقد كان واضحاً في المشهد السوري ان المعارضة قد وصلت في الفترة الأخيرة الى أعلى مستوى تعبوي، إلا أنها بقيت محصورة في نقاط محددة مع عجز واضح عن إنجاز إختراق نوعي في دمشق او حلب، المدينتين الأكبر والأهم سورياً. يضاف الى ذلك حالة المراوحة التي تكرست في الشهرين الأخيرين حيث ساد القول بأن المعارضة، ومعها النظام، قد وصلا الى حائط مسدود، وهو ما انعكس حالة إحباط وتردد في وسط البيئة الإجتماعية للمعارضة. من هنا، شكلت الهجمات الانتحارية في قلب دمشق رسالة الى بيئة المعارضة ورعاتها الخارجيين ايضاً، مفادها ان المعارضة ما زالت قادرة على المبادرة والتقدم وتمتلك القوة الضرورية لضرب قلب النظام وليس أطرافه فقط، وبالتالي فإن سقوط النظام ممكن بعكس ما شاع مؤخراً. لذا يرجو المنفذون رفع مستوى التعبئة التنظيمية والشعبية المؤيدة للمعارضة ومدها بالثقة والطاقة الضرورية للاستمرار بزخم متزايد بعد مرور 10 شهور مرهقة من التمرد.
ثانياً، تعميق الإنقسام والفرز الداخلي، إذ ان هذه الحركات تسعى الى تعميق الشرخ المجتمعي في الدولة المستهدفة سواء كان شرخاً مذهبياً، عرقياً، سياسياً او غيره، وذلك باعتبار ان الإنقسام العَمُودي داخل أي مجتمع يجعله أقل مناعة وأكثر عرضة للضغط والتأثر، وينتج بيئة ضاغطة على السلطة وفي ذات الوقت يخلق فراغات إجتماعية داخل الدولة، والتي تستخدمها هذه الحركات كحاضنة لها تنمو فيها وتحتمي بها وتنطلق منها. في هذا السياق هدفت تفجيرات دمشق الى تكريس الإنقسام داخل المجتمع السوري ورسم حدود واضحة بين شرائحه، وهو ما من شأنه إضعاف قدرة النظام على التواصل مع شرائح معينة، ويحصن المعارضة المسلحة ببيئة محتضنة صلبة، فالعمل الانتحاري بطبيعته ومستواه العنفي وقسوته الإنسانية يعتبر الأداة الأمثل في الشق العمودي للمجمتع السوري.
ثالثاً، نشر الخوف، وهي تقابل الغاية الأولى التي تهدف للتعبئة وجذب المناصرين. فالأعمال الإرهابية لا سيما في عصر الصورة المباشرة للحدث والتي تسهم لوحدها في تضخيم مستوى الخوف من خلال تكرار الصورة والتقاط التفاصيل المثقلة بالأشلاء والدم، تهدف الى بث الرعب والذعر في أوساط اجهزة الدولة من جهة والمؤيدين والمحايدين من جهة أجرى. ولكن بث الخوف ليس غاية في ذاته بل يهدف الى فك إرتباط المواطنين بالسلطة، تحفيزهم على الإنكفاء أو الإنقلاب حتى. في المشهد السوري كانت هجمات دمشق بأسلوبها، بتوقيتها وأمكنتها والمستهدفين بها تهدف الى بث شعور الرعب والذعر في أهم معاقل النظام. كانت دمشق تعيش نوعاً من الهدوء والسكينة قبيل التفجيرات، وتشهد حركة شعبية واسعة مؤيدة للنظام، وهو ما اعتبره المحللون من العلامات الأبرز لقوة النظام السوري. يضاف الى ذلك أن دمشق تمثل قلب المؤسسة الأمنية والعسكرية السورية والتي لا تزال متماسكة الى حد كبير، بعكس ما كان يتوقع كثيرون، لذا تركزت الهجمات على بنى أمنية حساسة بهدف نقل الخوف الى وعي هذه المؤسسة بما قد يؤسس الى إنشقاقات او بالحد الأدنى فقد قدرة المبادرة والإنكفاء للدفاع عن النفس.
رابعاً، الإستفزاز والإستنزاف، إذ تسعى الممارسات الإرهابية ذات العنف البالغ الى استفزاز الطرف المقابل بهدف دفعه الى التهور والتفلت من القيود والمنطقية والإحتكام الى الإنفعالات بما ينتج مزيداً من العنف السلطوي الذي يؤدي بدوره الى تقليص شرعية السلطة داخلياً وتشويه صورتها في الخارج. لذا يبدو انه من غير المستبعد أن التزامن بين وصول المراقبين العرب الى سوريا ووقوع التفجيرات الانتحارية، كان يهدف الى استفزاز النظام السوري في تلك اللحظة للرد بعنف، بما يشكل مادة دسمة لوفد المراقبين لا سيما بعدما تبين للمعارضة المسلحة أن النظام يتكيف مع وصول المراقبين ويبرز حسن نية وتعاونا مقبولا.
في تقويم لما حققته هجمات دمشق، تبدو النتائج متفاوتة. مثلاً يرجح أن تكون أعطت ثقة أكبر لمؤيدي المعارضة المسلحة وساهمت في رفع حالة التعبئة لديهم، إلا أنها بالمقابل دفعت قسماً مهماً من الصامتين او المحايدين الى مسافة اقرب بكثير الى النظام. كما يبدو أن الجهة المنفذة قد نجحت في رفع مستوى الخوف والقلق داخل دمشق والنظام ككل، لذا فإن إطلالة الرئيس الأسد من ساحة الأمويين كانت تهدف في إحدى غاياتها الى إمتصاص هذا القلق الشعبي وهو ما نجح الى حد ما. بناءً على هذه الأهداف السياسية، ليس من المستبعد ابداً أن تواصل تلك المجموعات استخدام هذا الأسلوب ونقله الى المعاقل الأخرى للنظام ـ كحلب مثلاً ـ على أن مدى تكرار هذا النوع من الهجمات يمكن أن يشكل مؤشراً جزئياً على حالة الجهات المنفذة، إذ ستجنح المعارضة المسلحة الى تكثيف هذا الأسلوب كلما شعرت بضعف موقفها وتماسك النظام وأن لعبة الوقت تسير بعكس ما تشتهي العقول المدبرة.
حسام مطر
شكلت التفجيرات الانتحارية الأخيرة في دمشق مؤشراً على دخول المواجهة في سوريا مرحلة جديدة بأبعاد متعددة. لقراءة هذه الأبعاد لا بد من مراجعة موجزة للأدبيات النظرية حول الغايات السياسية للفعل الإرهابي، أي ما هي الغايات السياسية التي تسعى خلفها المنظمات التي تستعمل تكتيكات إرهابية داخل مجتمع ما؟ وانطلاقاً من هذه الغايات يمكن تحليل الدلالات السياسية للهجمات الانتحارية التي تعرضت لها دمشق في الأسبوعين الأخيرين عدا عن جريمة جامعة دمشق. وبالتأكيد لن نسعى للخوض في فرضية "تآمر النظام على نفسه"، فإثبات ذلك أمر "دونه خرط القتاد" كما تقول العرب، بل ندرس الفرضية الأكثر رجوحاً ووضوحاً ومصداقية الى حين ثبوت العكس.
لقد أدت هجمات 11 ايلول وما تلاها من تفجيرات في بعض العواصم الأوروبية الى تراكم كمّ مذهل من الدراسات التي سعت للكشف عن الأهداف السياسية التي تبتغيها المنظمات من وراء أعمال "ذات طابع إرهابي" كمهاجمة التجمعات البشرية والعمليات الانتحارية. وقد اتجهت هذه الدراسات المختصة الى أن هذه المنظمات تستعمل العنف المفرط وغير المتوقع والمثقل بالصدمة والترويع والضحايا، بهدف تحقيق أربع غايات سياسية رئيسية: التعبئة، تعميق الإنقسام والفرز الداخلي، ونشر الخوف. إستفزاز السلطة الحاكمة واستنزافها. ونشير بادئ ذي بدء الى أن إستخدامنا لكلمة "إرهاب" يعني أسلوب العمل العنفي الذي يهدف لبث الرعب والذعر العام داخل مجتمع ما, بمعزل عن البُعد القانوني او الأخلاقي.
الغاية الأولى، هي سعي المنظمة أو الجهة المنفذة الى رفع مستوى التعبئة والمناصرة والإلتفاف حولها في بيئة محددة بما يؤمن للمنظمة قدرة تجنيد واحتضان اجتماعي وتأييد سياسي متزايد، إذ إن هذه الهجمات تزيد الثقة بالجهة المنفذة بين جمهورها وربما بين المترددين. لقد كان واضحاً في المشهد السوري ان المعارضة قد وصلت في الفترة الأخيرة الى أعلى مستوى تعبوي، إلا أنها بقيت محصورة في نقاط محددة مع عجز واضح عن إنجاز إختراق نوعي في دمشق او حلب، المدينتين الأكبر والأهم سورياً. يضاف الى ذلك حالة المراوحة التي تكرست في الشهرين الأخيرين حيث ساد القول بأن المعارضة، ومعها النظام، قد وصلا الى حائط مسدود، وهو ما انعكس حالة إحباط وتردد في وسط البيئة الإجتماعية للمعارضة. من هنا، شكلت الهجمات الانتحارية في قلب دمشق رسالة الى بيئة المعارضة ورعاتها الخارجيين ايضاً، مفادها ان المعارضة ما زالت قادرة على المبادرة والتقدم وتمتلك القوة الضرورية لضرب قلب النظام وليس أطرافه فقط، وبالتالي فإن سقوط النظام ممكن بعكس ما شاع مؤخراً. لذا يرجو المنفذون رفع مستوى التعبئة التنظيمية والشعبية المؤيدة للمعارضة ومدها بالثقة والطاقة الضرورية للاستمرار بزخم متزايد بعد مرور 10 شهور مرهقة من التمرد.
ثانياً، تعميق الإنقسام والفرز الداخلي، إذ ان هذه الحركات تسعى الى تعميق الشرخ المجتمعي في الدولة المستهدفة سواء كان شرخاً مذهبياً، عرقياً، سياسياً او غيره، وذلك باعتبار ان الإنقسام العَمُودي داخل أي مجتمع يجعله أقل مناعة وأكثر عرضة للضغط والتأثر، وينتج بيئة ضاغطة على السلطة وفي ذات الوقت يخلق فراغات إجتماعية داخل الدولة، والتي تستخدمها هذه الحركات كحاضنة لها تنمو فيها وتحتمي بها وتنطلق منها. في هذا السياق هدفت تفجيرات دمشق الى تكريس الإنقسام داخل المجتمع السوري ورسم حدود واضحة بين شرائحه، وهو ما من شأنه إضعاف قدرة النظام على التواصل مع شرائح معينة، ويحصن المعارضة المسلحة ببيئة محتضنة صلبة، فالعمل الانتحاري بطبيعته ومستواه العنفي وقسوته الإنسانية يعتبر الأداة الأمثل في الشق العمودي للمجمتع السوري.
ثالثاً، نشر الخوف، وهي تقابل الغاية الأولى التي تهدف للتعبئة وجذب المناصرين. فالأعمال الإرهابية لا سيما في عصر الصورة المباشرة للحدث والتي تسهم لوحدها في تضخيم مستوى الخوف من خلال تكرار الصورة والتقاط التفاصيل المثقلة بالأشلاء والدم، تهدف الى بث الرعب والذعر في أوساط اجهزة الدولة من جهة والمؤيدين والمحايدين من جهة أجرى. ولكن بث الخوف ليس غاية في ذاته بل يهدف الى فك إرتباط المواطنين بالسلطة، تحفيزهم على الإنكفاء أو الإنقلاب حتى. في المشهد السوري كانت هجمات دمشق بأسلوبها، بتوقيتها وأمكنتها والمستهدفين بها تهدف الى بث شعور الرعب والذعر في أهم معاقل النظام. كانت دمشق تعيش نوعاً من الهدوء والسكينة قبيل التفجيرات، وتشهد حركة شعبية واسعة مؤيدة للنظام، وهو ما اعتبره المحللون من العلامات الأبرز لقوة النظام السوري. يضاف الى ذلك أن دمشق تمثل قلب المؤسسة الأمنية والعسكرية السورية والتي لا تزال متماسكة الى حد كبير، بعكس ما كان يتوقع كثيرون، لذا تركزت الهجمات على بنى أمنية حساسة بهدف نقل الخوف الى وعي هذه المؤسسة بما قد يؤسس الى إنشقاقات او بالحد الأدنى فقد قدرة المبادرة والإنكفاء للدفاع عن النفس.
رابعاً، الإستفزاز والإستنزاف، إذ تسعى الممارسات الإرهابية ذات العنف البالغ الى استفزاز الطرف المقابل بهدف دفعه الى التهور والتفلت من القيود والمنطقية والإحتكام الى الإنفعالات بما ينتج مزيداً من العنف السلطوي الذي يؤدي بدوره الى تقليص شرعية السلطة داخلياً وتشويه صورتها في الخارج. لذا يبدو انه من غير المستبعد أن التزامن بين وصول المراقبين العرب الى سوريا ووقوع التفجيرات الانتحارية، كان يهدف الى استفزاز النظام السوري في تلك اللحظة للرد بعنف، بما يشكل مادة دسمة لوفد المراقبين لا سيما بعدما تبين للمعارضة المسلحة أن النظام يتكيف مع وصول المراقبين ويبرز حسن نية وتعاونا مقبولا.
في تقويم لما حققته هجمات دمشق، تبدو النتائج متفاوتة. مثلاً يرجح أن تكون أعطت ثقة أكبر لمؤيدي المعارضة المسلحة وساهمت في رفع حالة التعبئة لديهم، إلا أنها بالمقابل دفعت قسماً مهماً من الصامتين او المحايدين الى مسافة اقرب بكثير الى النظام. كما يبدو أن الجهة المنفذة قد نجحت في رفع مستوى الخوف والقلق داخل دمشق والنظام ككل، لذا فإن إطلالة الرئيس الأسد من ساحة الأمويين كانت تهدف في إحدى غاياتها الى إمتصاص هذا القلق الشعبي وهو ما نجح الى حد ما. بناءً على هذه الأهداف السياسية، ليس من المستبعد ابداً أن تواصل تلك المجموعات استخدام هذا الأسلوب ونقله الى المعاقل الأخرى للنظام ـ كحلب مثلاً ـ على أن مدى تكرار هذا النوع من الهجمات يمكن أن يشكل مؤشراً جزئياً على حالة الجهات المنفذة، إذ ستجنح المعارضة المسلحة الى تكثيف هذا الأسلوب كلما شعرت بضعف موقفها وتماسك النظام وأن لعبة الوقت تسير بعكس ما تشتهي العقول المدبرة.
حسام مطر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق