عرفات خارج مقره في رام الله قبل وفاته بأشهر (أرشيف ــ رويترز)
في ما يأتي سنسعى إلى إظهار علاقة الحدثين بسياسة جورج بوش بشكل عام تجاه الشرق الأوسط، وبشكل خاص بالغزو الاميركي للعراق في 2003، وهو بتداعياته كان من الأهم بالنسبة للولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كان الغزو الاميركي للعراق يهدف بالمعنى الجيو ــ استراتيجي إلى تثبيت توازن قوى في الشرق الاوسط لمنع المحور الذي تتزعمه إيران من دحر الهيمنة الأميركية في المنطقة، باعتبار أنّ هذا التوازن قد اختل نتيجة الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في 2000 ومن غزة لاحقاً، وانهيار فرص التسوية، إضافة إلى النزف المستمر في شرعية الأنظمة الموالية لواشنطن لمصلحة قوى إسلامية معادية للمشروع الأميركي. كان يراد للعراق أن يصبح منصة أو رأس جسر للانقضاض على سوريا وإيران بالتحديد، إلا أنّ العكس هو ما تحقق تماماً، إذ أصبحت واشنطن محاصرة في العراق بفعل الدور السوري والإيراني في دعم المقاتلين بشكل مباشر أو عبر غض النظر عنهم عند الممرات الحدودية مع العراق، وهذا مثبت بمئات التقارير والدراسات والتصريحات الأميركية.
خلال عام من دخولها العراق، تيقنت إدارة بوش أنّها وقعت بين فكي كماشة، وأنّها أصبحت تحت مطرقة محور المقاومة. وبدل أن تنتشل واشنطن تل أبيب من مأزقها أصبحت شريكة فيه، وبدل أن تعيد الحياة إلى توازن القوى، بدت همينة واشنطن الاقليمية كرماد في ريح عاصف. في مواجهة تلك المعضلة كان لا بد لواشنطن من خلق نقاط ضغط موازية على المحور المقابل، لإرغام سوريا وإيران على التراجع في العراق أو القبول بتسوية ما، فالعقل الاستراتيجي الأميركي مسكون بفكرة «توازن القوة». بالمنطق والحسابات السياسية كان يجب على واشنطن في ظل العجز عن استهداف إيران وسوريا مباشرة أن تختار كلاً من المقاومة في لبنان وفلسطين كنقطتي ضغط موازية، إلا أنّ هذا الضغط لا يمكن إنجازه مباشرة إلا عبر وكلاء واشنطن المحليين في كلا الساحتين اللبنانية والفلسطينية. في هذا السياق صدر في بداية أيلول 2004 القرار الشهير 1559، أي قبل 40 يوماً من ظهور علامات المرض على عرفات (12 تشرين أول) والذي ما لبث أن فارق الحياة في 11 تشرين الثاني 2004، وقد تلاه حدث اغتيال الرئيس الحريري بعد 3 أشهر تقريباً في 14 شباط 2005. كل هذا تم خلال أقل من ستة أشهر.
عند هذه النقطة يبرز التساؤل الجوهري: كيف يخدم كلا الاغتيالين المشروع الاميركي في تلك اللحظة؟ ما كان يريده الأميركي في تلك اللحظة الحرجة من وكلائه هو مواجهة مباشرة وقاسية ــ عبر العزل والتقييد والفتنة ــ مع المقاومة في لبنان وفلسطين، إلى الدرجة التي يرتضي معها الايراني والسوري وقف الضغط على القوات الأميركية في العراق. في فلسطين المرشح لتأدية المهمة هو السلطة بزعامة فتح، وفي لبنان هو تيار المستقبل «السنّي» بمواجهة حزب الله «الشيعي»، كي لا تفقد المواجهة بُعدها المذهبي، وهو أمر لا غنى عنه في سبيل التعبئة الشعبية المذهبية الشاملة. المشكلة هي أنّ عرفات والحريري لم يكونا مستعدين للمهمة، وهذا مردّه إلى حسابات الرجلين وتجربتهما المديدة وواقعيتهما السياسية.
منذ وصول بوش إلى السلطة تفاقمت أزمة عرفات مع تل أبيب وواشنطن اللتين اعتبرتا أنّه لم يعد «شريكاً صالحاً للسلام»، لا سيما بعد كشف سفينة الأسلحة «كارين أي». في 11 أيلول 2002 أعلن البيت الأبيض أنّ بوش لا يزال يريد رحيل عرفات، وفي 27 آب 2003 احتج البيت الأبيض على قرار عرفات تعيين مستشار جديد للأمن القومي، قائلاً إنّه «ينتقص من جهود رئيس الوزراء الإصلاحي، محمود عباس، ويضعف خطة السلام التي تدعمها الولايات المتحدة.» وفي 14 تموز 2004 أبلغ تيري رود لارسن مجلس الأمن أن الأراضي الفلسطينية «تتوجه تدريجاً إلى الفوضى»، وأن عرفات يظهر «عدم رغبة سياسية» في إصلاح السلطة الفلسطينية»، وفق ما تنص عليه خطة «خارطة الطريق». وعقب إعلان وفاته، أعرب بوش عن تعازيه بعرفات، ووصف رحيله بأنّه «لحظة مهمة» في سعي الفلسطينيين نحو السلام وتحقيق دولتهم المستقلة. ومن جانبه قال شارون إنّ وفاة عرفات يمكن أن «تكون نقطة تحول من أجل السلام إذا أوقف الفلسطينيون الإرهاب وشنّوا حرباً ضده». فهل كان لعرفات هذا أن يكون شريكاً للولايات المتحدة في تلك اللحظة للصدام مع المقاومة الفلسطينية؟ بالتأكيد لا، بل إنّ التحريض عليه وإلغاء دوره لمصلحة عباس كانا جليين بشكل لا يحتمل أي لبس.
أما الرئيس الحريري فكان صاحب حسابات بعيدة الأمد، وأسلوب تدريجي ــ احتوائي لا يميل إلى المواجهة المباشرة. يدرك بحنكته نتائج الصدام المباشر مع المقاومة، وسلوكه منذ منتصف التسعينيات مع حزب الله يثبت ذلك. قبل اغتياله بأيام كان يعقد اجتماعات مفتوحة مع الأمين العام للحزب لصياغة توافق انتخابي ــ سياسي، ورغم صدامه مع الرئيس لحود، أذعن للضغط السوري في ما يخص التمديد. والأهم أنّه حتى لو ارتضى الحريري الدور الذي كانت تريده إدارة بوش له حينها، فإنه كان ليجد صعوبة بالغة في تعبئة السنّة في مواجهة المقاومة. ولذا، فالتخلص من الحريري كان يفتح المجال لشخصية قادرة على أداء الدور المطلوب، والأهم أنّه حدث ضروري لتعبئة السنّة في وجه سوريا والمقاومة بفعل التحريض الإعلامي والسياسي.
بعد كلا الاغتيالين أخذت الأحداث مساراً مماثلاً في كلا الساحتين. تصدى كل من محمود عباس وفؤاد السنيورة لخوض المواجهة. شخصيتان تتشابهان سياسياً إلى حدّ التوأمة، وكانتا تفتقدان حينها أي رمزية قيادية، متحررتين من عبء التاريخ الشخصي والسياسي. لقد قُدّما على أنّهما استمرار لمسيرة السلف لإضفاء هالة من الشرعية، والأهم أنّهما استمدا حضورهما في السلطة فقط من حاجة المشروع الاميركي إلى دورهما. كانا طيّعين إلى أقصى الحدود وجاهزين للمواجهة. خلال السنوات ما بين 2005-2010 تعرض حزب الله وحركة حماس لتحديات متشابهة، تكفّل السنيورة وعباس عبر قيادتهما لحركتين سياسيتين في المساهمة بخلقها أو إيجاد البيئة الملائمة لها: حروب إسرائيلية طاحنة عامي 2006 و 2008 والأهم الفتنة الداخلية في غزة 2007 وبيروت 2008. إن هذه الأحداث رغم فشلها في انتشال واشنطن من مأزقها العراقي، إلا أنّها خلقت كتلاً محلية بوجه المقاومة وانقساماً حاداً حول شرعيتها الوطنية واستنزافاً سياسياً متواصلاً.
في الخلاصة، إن ربط الحدثين زمنياً وموضوعياً يمكن أن يسهم في كشف بعض الغموض ويتيح فهماً أفضل لمجريات الاحداث السياسية خلال تلك المرحلة الحساسة، إلى الآن. العقل المدبر في كلا الجريمتين هو ذاته، هدفه خلق ظروف تسمح له بالانقضاض على «رأس الرمح» في محور المقاومة، أي حزب الله والمقاومة الفلسطينية، بهدف إضعاف قبضتي هذا المحور، أي إيران وسوريا، في الملف العراقي حينها. إذاً بالاتهام السياسي، الولايات المتحدة هي الرأس المدبر، والضحية الحقيقية هي شعوب اقتنعت بأن المجني عليهما قتلا لأسباب مذهبية أو سلطوية. هكذا أرادها القاتل الحقيقي أن تؤمن، لعل هذا الربط يدفع البعض إلى أن يدرك أو على الأقل ليحتمل أن العنوان الحقيقي في تلك الفوضى كلها هو رأس المقاومة.
حسام مطر
* باحث لبناني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق