غزوة السفارات: الإنتهازي والغبي في الفخ
نشرت هذه المقالة على موقع الانتقاد بتاريخ 14 أيلول 2012
حسام مطر
علاقة الأميركيين بالجماعات الإسلاموية "الجهادية" أو التكفيرية مثيرة للعجب, ويحار المرء في من منهما اكثر انتهازية, الولايات المتحدة التي استخدمتهم في مواجهة السوفيات وثم إيران والآن سوريا, ام هذه الجماعات التي داهنت الأميركيين للوصول الى السلطة في أعقاب موجة التغييرات السياسية التي تعصف بالمنطقة منذ عام 2010. إلا أن الحيرة في الانتهازية لا تمتد الى الغباء, التكفيري يتفوق في ذلك من دون منازع, دورة حياته خير شاهد, اذ لا ينفك يخدم مشروعاً أميركياً كما في مواجهة السوفيات وإيران وحالياً سوريا ثم ينتهي به الآمر مقتولاً بيد الأميركي او موصوماً بالإرهاب او معتقلاً في غوانتنامو, ثم يعود لخدمة مشروع أميركي ثم يقتل او يسجن او يلاحق. وهكذا في دائرة مغلقة من الغباء العبثي. الأميركي يستفيد من التكفيريين والمتطرفين ليس فقط في زجهم في صراعات وساحات تخدم مصالحه بل أيضاً بتحييدهم عن التعرض لحلفائه كما حيدهم عن الخليج ومصر في الثمانينات وكما يحيدهم الآن عن لحظة تكوين أنظمة جديدة في تونس وليبيا ومصر. هم يخدمونه في سوريا وهو يضع أسس الأنظمة الجديدة التي ستكون جاهزة لسجنهم او قتلهم عند انتهاء المهمة السورية.
لا يعني ما تقدم ان الولايات المتحدة لا تدفع أي خسائر من جراء انتهازيتها مع الجماعات الإسلاموية. وليس ما حصل من هجمات
على سفاراتها مؤخراً بعد بث الفيلم المسيء للرسول الاعظم, إلا شاهد من
شواهد عدة. إلا ان الفارق الجوهري هو أن الولايات المتحدة تستغل هذه
الجماعات بحنكة وذكاء وبراغماتية وبناء لحسابات رياضية عن الكسب والخسارة,
فيما لا تتعدى "ضربات" هذه الجماعات للأهداف الأميركية كونها من موقع
الانفعال والإحباط وتسجيل النقاط, وخارج أي سياق إستراتيجي واضح. سرعان ما
ستعيد أحداث مهاجمة السفارات الأميركية الذاكرة الأميركية الى حادثة
السفارة الأميركية في طهران بُعيد انتصار الثورة الإسلامية 1979, وهي
الحادثة التي يراها بعض الباحثين الأميركيين مهيمنة على التصورات والعلاقات
الأميركية مع إيران. إلا أنه لا ينبغي أن نخطئ في هذا التشبيه, إذ الحدثان
متمايزان أيضاً, فحادثة طهران كانت انطلاقاً من موقف الثورة الواضح من
الولايات المتحدة, موقف معادٍ لواشنطن لدورها في دعم الشاه ودعم إسرائيل
والاستهانة بكرامات العرب والمسلمين.
يمكن أن تثير موجة الهجمات على السفارات الأميركية بسبب الفيلم المسيء للرسول الأعظم جملة ملاحظات وعلى أكثر من صعيد:
أميركياً, ستعزز هذه الحادثة الرأي القائل باستحالة التحالف مع الإسلاميين بسبب الفوارق الإيديولوجية, وسينتقل ذلك بحدة الى السجال الانتخابي الذي سارع المرشح الجمهوري الى إطلاقه خلال ساعات من مقتل السفير الاميركي في ليبيا. على الأرجح أن تدفع هذه الأحداث بالأميركيين الى المزيد من التروي والتشكيك بالعلاقات مع القوى الإسلامية وبسياستها تجاه أحداث المنطقة لا سيما سوريا, حيث تدفع الولايات المتحدة وشركاؤها بالقوى التكفيرية الى النزاع الدائر هناك. أبرزت هذه الأحداث هشاشة الولايات المتحدة في الوجدان العربي العام, فخلال ساعات ضاعت جهود ضخمة من الدبلوماسية العامة ومحاولات التأثير بالقوة الناعمة. كما يُرجح أن تهيمن هذه الأحداث على السياسات الأميركية والغربية بشكل عام تجاه التحولات العربية, وتجعل محاولات أوباما لمداهنة الإسلاميين أكثر صعوبة.
على المستوى الرسمي العربي, تشعر الحكومات الإسلامية الجديدة وحلفاء واشنطن في الخليج بحرج شديد, فلا هي قادرة على انتقاد واشنطن او اتخاذ خطوات سياسية مضادة , ولا قادرة على مواجهة الرأي العام المحلي. وفي هذه اللحظة حيث للشرعية أهمية بالغة تقوم القوى السلفية باستنزاف شرعية الإخوان المسلمين من خلال تصديها للهجمات على السفارات الأميركية. في مواجهة تلك المعضلة يحاول الإخوان "المشي على الحبل" عبر إدانة الفيلم ومطالبة واشنطن بإجراءات رادعة وكذلك إدانة العنف والهجمات على الأميركيين. من الطرائف المتعلقة بهذه الإزدواجية أن يرسل خيرت الشاطر, القيادي الأبرز في جماعة الإخوان في مصر, رسالة عبر تويتر معبراً عن سعادته بسلامة السفارة الأميركية في مصر, وإذ بالسفارة ترد عبر تويتر شاكرة للشاطر مشاعره مضيفة: " بالمناسبة هل تفقدتم صفحتكم العربية؟ نحنا نأمل أنكم تعلمون أننا نقرأ تلك العربية أيضاً " في إشارة الى ازدواجية خطاب الإخوان بين مواقعهم الناطقة بالإنكليزية والعربية.
أما على المستوى الشعبي العربي والإسلامي, فما يثير السخط هو أننا سابقاً لم نجد في كل ما قامت وتقوم به الولايات المتحدة في المنطقة سبباً كافياً للتظاهر ضدها والمطالبة برحيل سفاراتها. فلمَ لا تتوجه الجماهير نحو حكوماتها المنتخبة حديثاً للمطالبة بطرد السفراء او للضغط على الولايات المتحدة لتقديم اعتذار؟ المدهش هذه العقلانية التي تتبدى في سلوك أنظمة الخليج عندما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة, فيما قام آل سعود بالتحديد بتكفير مذهب كامل بحجة ما صدر عن بضعة أشخاص من إهانات بحق إحدى زوجات النبي (ص), فيما الإساءة لذات النبي استدعت تنديداً سعوديا بالفيلم وردود الفعل العنفية. إنها أنظمة عقلانية! والمستغرب الآخر, ما سارع إليه كثيرون من إدانة التحركات في الشارع بحجة أنها تحرف الانتباه عن ما يجري في سوريا. ليبراليو آل سعود وجدوا فيها مؤامرة مقصودة لهذا الهدف, والرئيس المصري شاركهم الهم ذاته بقوله " الفيلم المسيء للاسلام "يحول الانتباه عن المشاكل الحقيقية" في الشرق الاوسط".
أما على المستوى الشعبي العربي والإسلامي, فما يثير السخط هو أننا سابقاً لم نجد في كل ما قامت وتقوم به الولايات المتحدة في المنطقة سبباً كافياً للتظاهر ضدها والمطالبة برحيل سفاراتها. فلمَ لا تتوجه الجماهير نحو حكوماتها المنتخبة حديثاً للمطالبة بطرد السفراء او للضغط على الولايات المتحدة لتقديم اعتذار؟ المدهش هذه العقلانية التي تتبدى في سلوك أنظمة الخليج عندما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة, فيما قام آل سعود بالتحديد بتكفير مذهب كامل بحجة ما صدر عن بضعة أشخاص من إهانات بحق إحدى زوجات النبي (ص), فيما الإساءة لذات النبي استدعت تنديداً سعوديا بالفيلم وردود الفعل العنفية. إنها أنظمة عقلانية! والمستغرب الآخر, ما سارع إليه كثيرون من إدانة التحركات في الشارع بحجة أنها تحرف الانتباه عن ما يجري في سوريا. ليبراليو آل سعود وجدوا فيها مؤامرة مقصودة لهذا الهدف, والرئيس المصري شاركهم الهم ذاته بقوله " الفيلم المسيء للاسلام "يحول الانتباه عن المشاكل الحقيقية" في الشرق الاوسط".
في المقلب الآخر, ظهرت فرضية المؤامرة أيضاً ولكن باتجاه معاكس, فمقتل السفير الأميركي في بنغازي هي مؤامرة أميركية للتدخل العسكري في ليبيا. يتناسى أصحاب هذه الفرضية أن المرتكز الأساسي في نجاح أوباما هو تعهده بسحب القوات الأميركية من العراق وأفغانستان. ويتناسون أيضاً أن إدارة أوباما وأغلبية الباحثين الأميركيين توصلوا الى خلاصة وعبرة مفادهما عدم التورط العسكري المباشر على الأرض مجدداً في الشرق الأوسط, فذلك لن يكون إلا تكراراً لعراق آخر, ولفشل إستراتيجي, وخسائر بشرية واقتصادية مدمرة, وعداء متزايد في المنطقة, وصورة مشوهة في العالم. والأهم أن الأميركي قادر على تحقيق مصالحه من خلال حلفائه وادواته في السلطة الليبية. من الأمن والسياسة الى النفط, الوكيل القطري يقوم بالمهمة على أكمل وجه. ثم إن ما يجري الآن من تحركات شعبية بوجه الأميركيين يضع سياسة أوباما تجاه المنطقة و"الربيع العربي" تحت مبضع النقد الشديد واعتبار أنها استندت الى فرضيات خاطئة ورؤى وردية, وكل ذلك في أجواء الانتخابات الرئاسية وهو آخر ما يحتاجه أوباما الآن. إلا أن ذلك لن يمنع واشنطن من توجيه ضربة استخباراتية تكتيكية خاطفة للمجموعة الليبية التي تعتقد واشنطن أنها خلف الهجوم ( مثل حركة انصار الشريعة), وهو احتمال مرجح بقوة بناء على تجارب سابقة, وفي ذلك مكسب معنوي وإظهار للهيبة ورصيد انتخابي.
لن تمر الأحداث الحالية مرور الكرام. هي رأس جبل الجليد. منذ أيام كان المنتفضون أمام السفارات الأميركية يجري تبجيلهم في واشنطن واليوم أصبحوا في خانة "الإرهاب". منذ أيام كانت واشنطن ترسلهم "للشهادة" في سوريا واليوم تحرض الحكومات الرمادية في مصر وتونس وليبيا واليمن, على زجهم في السجون. هي دورة حياة التكفيري الغبي, ربما أصبحت أسرع فقط, كحال زمن العولمة. ما يجري ليس متعلقاً بالفيلم المسيء. لم يكن الفيلم إلا شرارة في موقد جاهز.
حسام مطر - باحث وكاتب لبناني في العلاقات الدولية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق