نشرت هذه المقالة في جريدة الأخبار اللبنانية, العدد 1523 بتاريخ 28\9\2011
مع بداية التسعينيات، كانت روسيا ملاذ إيران للخروج من عزلتها الدولية. مذ حينها، كان التقارب مع روسيا جزءاً جوهرياً في استراتيجية الصعود الإيراني، مما انعكس نمواً في مجالات التبادل النووي والعسكري والتجاري والدبلوماسي بينهما. ويكفي لذلك تفحص السياسة الإيرانية حول الصراع في الشيشان، إذ قامت طهران بتنحية موقفها العقائدي جانباً، لخير مصلحتها القومية حينها، مما استجلب لها انتقادات داخلية وخارجية حادة.
لم يكن عصيّاً على الأميركيين إدراك تلك الفجوة التي أوجدها التعاون الروسي ـــــ الإيراني في محاولات الإدارات الأميركية المتعاقبة لحصار الجمهورية الإسلامية. ولذلك شكلت إيران أبرز نقاط الافتراق الأميركية ـــــ الروسية، التي حلّت دوماً على مائدة المساومات بينهما. إلا أنّ موسكو كانت تجد أنّ الثمن الأميركي المعروض لا يعوّض المكاسب التي تتيحها طهران. أدى ذلك «الثبات» الروسي تجاه العلاقة مع إيران الى عجز الساسة الإيرانيين عن توقع التغييرات التي قد تدفع بموسكو الى «بيعهم للشيطان»، بحسب تعبير أحمدي نجاد، عقب القرار الروسي بتعليق صفقة بيع منظومة الدفاع الجوي «اس 300».
وقد سبق تلك الخطوة الروسية انتكاسة أخطر بسبب موافقة موسكو على الجولة الرابعة من العقوبات الدولية في مجلس الأمن. وقد جرى إسناد ذلك التحوّل الى جملة عوامل، منها: سياسة الانفتاح الأميركي بقيادة أوباما تجاه موسكو؛ الوعد الأميركي بتأييد انضمام روسيا لمنظمة التجارة الدولية؛ والأخذ بالهواجس الروسية حيال مشروع الدرع الصاروخية في أوروبا. لكن روسيا أطلقت أخيراً مبادرة «خطوة بخطوة»، لإخراج الخلاف حول الملف النووي الإيراني من الطريق المسدود الذي وصل إليه. وقد سبق ذلك تطبيقها لإلتزاماتها تجاه تشغيل مفاعل بوشهر. وأعقب تلك المبادرة تنشيط للزيارات المتبادلة بين الطرفين.
في ظل الإشارات إلى عودة التقارب الإيراني ـــــ الروسي، سارع المحللون الأميركيون الى محاولة استكشاف خلفيات السلوك الروسي. يعتبر البعض ذلك رسالة انزعاج الى إدارة أوباما بسبب منع 60 مسؤولاً روسياً من دخول الولايات المتحدة بتهمة التورط في قتل المحامي سيرج ماغنيتسكي، وقرار مجلس الشيوخ الأميركي في تأكيد وحدة الأراضي الجورجية، ومطالبة القوات الروسية بالانسحاب من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. في المقابل، يبرز رأي يشير الى أنّ السلوك الروسي يستند الى محاولة ابتزاز واشنطن. يتبنى دانيال فاجديك ذاك الرأي، معتبراً أنّ من الخطأ اعتبار وجود تغيّر في الموقف الروسي، فالكرملين يزيد انخراطه مع إيران بهدف مقايضة ذلك بتنازلات أميركية في مجالات أخرى، في محيط روسيا الحيوي وفي موقفها من الشؤون الداخلية الروسية. إلا أنّ فاجديك يحذّر إدارة أوباما من التسليم بالابتزاز، باعتبار أنّ موسكو لا تملك القدرة على تغيير السياسات الإيرانية تجاه الملف النووي، وبالتالي لا تملك شيئاً للمقايضة. (دانيال فاجديك، «لا تسمحوا لروسيا باستخدام إيران كأداة للمساومة»، «أميركان إنتربرايز»، 22 آب 2011).
وفي سياق الاستدلال على ذلك الارتياب الأميركي، تبرز قضية تصريح السفير الإيراني لدى روسيا عن نيّة طهران التوجه نحو محكمة تحكيمية دولية في شأن وقف صفقة بيع نظام «اس300»، معللاً الخطوة بالقول إنّ صدور حكم قضائي سيشكل مخرجاً لائقاً لموسكو لتوريد المنظومة. ورغم أنّ المتحدث باسم وزارة الخارجية الروسية أعلن استغراب بلاده للخطوة الإيرانية، إلا أنّ بعض المحللين الأميركيين يشككون بوجود مؤامرة إيرانية ـــــ روسية، لاستكمال التعاون العسكري بينهما.
غير أنّه يمكن الاستناد الى أسباب أخرى للموقف الروسي المستجد، إذ تتلمس موسكو محدودية النتائج المترتبة على تعاونها مع واشنطن، في مقابل ما يمكن التعاونَ مع إيران أن يستجلبه. ثانياً، في ظلّ الأزمة الاقتصادية، تجد موسكو أنّ شريكاً كإيران يمكن أن يقدم لها ميزات اقتصادية مضاعفة. ثالثاً، ترى موسكو في تطوّرات المنطقة، ولا سيما ليبيا وسوريا، تهديداً خطيراً لنفوذها فيها، في ظلّ عدم تجاوب واشنطن مع المصالح الروسية الحيوية في الشرق الأوسط، وتحديداً في سوريا.
رابعاً، القلق الروسي من الصعود الإقليمي التركي، إذ إنّه يعني بالنسبة لموسكو أنّ انقرة ستصبح أكثر قدرةً وجرأةً في سياستها تجاه منطقة بحر قزوين والبلقان وآسيا الوسطى. لذا تجد روسيا في تعزيز الدور الإيراني سبيلاً ضرورياً لموازنة النفوذ التركي، فضلاً عن الدور الأميركي في الشرق الأوسط.
يدرك الإيرانيون تلك التوازنات الحساسة، وكذلك مكامن الضعف في الموقف الروسي، ولذا صرح صالحي في موسكو أنّه «في ما يتعلق ببحر قزوين، لدينا وجهات نظر مشتركة وجيدة... وتقرر تمهيد الأرضية لتوسيع التعاون الاقتصادي... في مجالات الطاقة والبنى التحتية والشحن والنقل والترانزيت والتنمية».
يعرف الإيرانيون أنّ أبرز عناصر قوّة العقوبات الدولية هو مدى الإجماع عليها، ولذلك سعوا الى تهشيم ذلك الإجماع وإضعافه. لذا سيكون التحوّل الروسي ـــــ إن اكتمل ـــــ بمثابة ضربة قاصمة لظهر العقوبات الدولية. يبدو أنّ الروس تيقّنوا أنّه لم يعد لأوباما «الغريق»، أن ينتشل أحداً، لذا تتقدم الشراكة مجدداً مع إيران، في مواجهة تسونامي التغييرات الإقليمية والدولية.
حسام مطر
لم يكن عصيّاً على الأميركيين إدراك تلك الفجوة التي أوجدها التعاون الروسي ـــــ الإيراني في محاولات الإدارات الأميركية المتعاقبة لحصار الجمهورية الإسلامية. ولذلك شكلت إيران أبرز نقاط الافتراق الأميركية ـــــ الروسية، التي حلّت دوماً على مائدة المساومات بينهما. إلا أنّ موسكو كانت تجد أنّ الثمن الأميركي المعروض لا يعوّض المكاسب التي تتيحها طهران. أدى ذلك «الثبات» الروسي تجاه العلاقة مع إيران الى عجز الساسة الإيرانيين عن توقع التغييرات التي قد تدفع بموسكو الى «بيعهم للشيطان»، بحسب تعبير أحمدي نجاد، عقب القرار الروسي بتعليق صفقة بيع منظومة الدفاع الجوي «اس 300».
وقد سبق تلك الخطوة الروسية انتكاسة أخطر بسبب موافقة موسكو على الجولة الرابعة من العقوبات الدولية في مجلس الأمن. وقد جرى إسناد ذلك التحوّل الى جملة عوامل، منها: سياسة الانفتاح الأميركي بقيادة أوباما تجاه موسكو؛ الوعد الأميركي بتأييد انضمام روسيا لمنظمة التجارة الدولية؛ والأخذ بالهواجس الروسية حيال مشروع الدرع الصاروخية في أوروبا. لكن روسيا أطلقت أخيراً مبادرة «خطوة بخطوة»، لإخراج الخلاف حول الملف النووي الإيراني من الطريق المسدود الذي وصل إليه. وقد سبق ذلك تطبيقها لإلتزاماتها تجاه تشغيل مفاعل بوشهر. وأعقب تلك المبادرة تنشيط للزيارات المتبادلة بين الطرفين.
في ظل الإشارات إلى عودة التقارب الإيراني ـــــ الروسي، سارع المحللون الأميركيون الى محاولة استكشاف خلفيات السلوك الروسي. يعتبر البعض ذلك رسالة انزعاج الى إدارة أوباما بسبب منع 60 مسؤولاً روسياً من دخول الولايات المتحدة بتهمة التورط في قتل المحامي سيرج ماغنيتسكي، وقرار مجلس الشيوخ الأميركي في تأكيد وحدة الأراضي الجورجية، ومطالبة القوات الروسية بالانسحاب من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. في المقابل، يبرز رأي يشير الى أنّ السلوك الروسي يستند الى محاولة ابتزاز واشنطن. يتبنى دانيال فاجديك ذاك الرأي، معتبراً أنّ من الخطأ اعتبار وجود تغيّر في الموقف الروسي، فالكرملين يزيد انخراطه مع إيران بهدف مقايضة ذلك بتنازلات أميركية في مجالات أخرى، في محيط روسيا الحيوي وفي موقفها من الشؤون الداخلية الروسية. إلا أنّ فاجديك يحذّر إدارة أوباما من التسليم بالابتزاز، باعتبار أنّ موسكو لا تملك القدرة على تغيير السياسات الإيرانية تجاه الملف النووي، وبالتالي لا تملك شيئاً للمقايضة. (دانيال فاجديك، «لا تسمحوا لروسيا باستخدام إيران كأداة للمساومة»، «أميركان إنتربرايز»، 22 آب 2011).
وفي سياق الاستدلال على ذلك الارتياب الأميركي، تبرز قضية تصريح السفير الإيراني لدى روسيا عن نيّة طهران التوجه نحو محكمة تحكيمية دولية في شأن وقف صفقة بيع نظام «اس300»، معللاً الخطوة بالقول إنّ صدور حكم قضائي سيشكل مخرجاً لائقاً لموسكو لتوريد المنظومة. ورغم أنّ المتحدث باسم وزارة الخارجية الروسية أعلن استغراب بلاده للخطوة الإيرانية، إلا أنّ بعض المحللين الأميركيين يشككون بوجود مؤامرة إيرانية ـــــ روسية، لاستكمال التعاون العسكري بينهما.
غير أنّه يمكن الاستناد الى أسباب أخرى للموقف الروسي المستجد، إذ تتلمس موسكو محدودية النتائج المترتبة على تعاونها مع واشنطن، في مقابل ما يمكن التعاونَ مع إيران أن يستجلبه. ثانياً، في ظلّ الأزمة الاقتصادية، تجد موسكو أنّ شريكاً كإيران يمكن أن يقدم لها ميزات اقتصادية مضاعفة. ثالثاً، ترى موسكو في تطوّرات المنطقة، ولا سيما ليبيا وسوريا، تهديداً خطيراً لنفوذها فيها، في ظلّ عدم تجاوب واشنطن مع المصالح الروسية الحيوية في الشرق الأوسط، وتحديداً في سوريا.
رابعاً، القلق الروسي من الصعود الإقليمي التركي، إذ إنّه يعني بالنسبة لموسكو أنّ انقرة ستصبح أكثر قدرةً وجرأةً في سياستها تجاه منطقة بحر قزوين والبلقان وآسيا الوسطى. لذا تجد روسيا في تعزيز الدور الإيراني سبيلاً ضرورياً لموازنة النفوذ التركي، فضلاً عن الدور الأميركي في الشرق الأوسط.
يدرك الإيرانيون تلك التوازنات الحساسة، وكذلك مكامن الضعف في الموقف الروسي، ولذا صرح صالحي في موسكو أنّه «في ما يتعلق ببحر قزوين، لدينا وجهات نظر مشتركة وجيدة... وتقرر تمهيد الأرضية لتوسيع التعاون الاقتصادي... في مجالات الطاقة والبنى التحتية والشحن والنقل والترانزيت والتنمية».
يعرف الإيرانيون أنّ أبرز عناصر قوّة العقوبات الدولية هو مدى الإجماع عليها، ولذلك سعوا الى تهشيم ذلك الإجماع وإضعافه. لذا سيكون التحوّل الروسي ـــــ إن اكتمل ـــــ بمثابة ضربة قاصمة لظهر العقوبات الدولية. يبدو أنّ الروس تيقّنوا أنّه لم يعد لأوباما «الغريق»، أن ينتشل أحداً، لذا تتقدم الشراكة مجدداً مع إيران، في مواجهة تسونامي التغييرات الإقليمية والدولية.
حسام مطر