نشرت هذه المقالة عبر موقع النشرة الإلكتروني بتاريخ 2 أيلول 2011
يحاول الساسة والباحثون تفسير التحول الحاصل في السياسة الخارجية التركية من خلال مقاربات آحادية, إذ تجد من يعيد ذلك لأسباب دينية بحتة متصلة بطبيعة حزب العدالة والتنمية, في مقابل من يحصر ذلك بالعناصر الواقعية على مثال سعي أنقرة لتمديد نفوذها الإقليمي بعد إنغلاق الأفق الأوروبي بوجهها. بينما في الواقع, يمكن حتى للقوى العقائدية والإيديولوجية أن تقوم بحسابات إستراتيجية وفي ذات الوقت تتأثر سياساتها بما هو مقدس وإلهي, كما يعبر جاك سنايدر في دراسته حول " الدين ونظرية العلاقات الدولية". وفي الإتجاه عينه , يحاجج علي الأنصاري أن المحددات الثقافية – وضمنها الدينية- لسلوك اللاعبين السياسيين لا تنوجد في فراغ, بل هي ذاتها تتشكل بالتجارب المادية, فالمصالح يمكن أن تتحدد عبر القيم الثقافية, إلا ان الرؤية العقائدية للعالم تتأثر أيضاً بالوقائع القاسية التي أفرزتها التجارب التاريخية.
وعليه إن محاولة فهم السلوك التركي يجب أن تستند الى هذه المزاوجة بين العناصر الدينية والواقعية, وإن كانت اللحظة الحالية لا زالت تشهد تفوق العناصر الواقعية في السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية الذي لا زال يستكشف ويتعلم حدود المثل الدينية في عالم الواقع. لذلك تسعى تركيا – كمجمل القوى الإقليمية – الى التمدد والسعي للنفوذ والسيطرة, وهو ما يستجلب للحزب الحاكم والدولة عوائد إقتصادية وسياسية وشرعية داخلياً وخارجياً.
إلا أن هذا السعي التركي نحو النفوذ الإقليمي (كحد أدنى) أو الهيمنة الإقليمية (كحد أقصى) يصطدم غالباّ بعقبات عدة ذاتية وخارجية, كما سائر القوى الإقليمية كإيران والسعودية. في الحالة التركية تتركز الموانع الذاتية حول عنصرين أساسيين: التاريخ , والهوية. فتاريخ الإمبراطورية العثمانية أنتج كماً من فقدان الثقة والقلق والريبة والخوف الذي يحتاج الى أكثر من 12 شهيداً في أسطول الحرية وأكثر من دقيقة غضب بوجه بيريز وأكثر من خطاب عالي النبرة بل وأكثر من زيارة لغزة, لمحوه من الذاكرة والوعي العربي. وكذلك تشكل الهوية حاجزاً للنفوذ التركي في المحيط العربي لا سيما متى إستخدمت الأنظمة هذه الأداة للحد من تأثيرات القوى الإقليمية غير العربية.
أما الموانع الخارجية للنفوذ التركي, فهي عدة وأهمها البيئة الإقليمية الشديدة الإضطراب وفقدان قواعد ثابتة نسبياً للعلاقات الإقليمية, الحضور الوازن للقوة الإسرائيلية, الدور الإميركي الذي يسعى لضبط حجم ودور القوى الإقليمية في الشرق الأوسط, وأخيراً القوى الإقليمية المنافسة وبالتحديد السنية منها.
وفيما يخص النقطة الأخيرة وهي الأهم, فإن قدرة تركيا على تحقيق تقدم في دورها ونفوذها الإقليمي مرتبط بمدى قدرتها على الولوج في العالم العربي والسني بالتحديد. إن تراجع القوى العربية الأساسية لا سيما مصر كان عنصراً أساسياً في تمدد النفوذ الإيراني والتركي لاحقاً في الشرق الأوسط. وعليه إن بزوغ مصر بعد مبارك كقوة إقليمية عربية وسنية سيسمح لها بإشغال مناطق الفراغ بل وفرض التراجع على كل من إيران وتركيا وحتى السعودية. إلا أنه بالمقارنة بين هذه الدول الثلاث, فإن إيران هي أقل المتضررين من الصعود المصري بعكس كل من تركيا والسعودية.
إن النفوذ الإيراني قد ترسخ بثبات في الدائرة الشيعية في المنطقة, وقد تمدد منذ الثورة بإتجاه فضاءات واسعة ضمن الساحة السنية نتيجة مواقف إيران ودورها وفاعليتها الإقليمية. إلا أن هذا التأييد السني بقي رخواً وإنفعالياً وطارئاً في مجمله, إذ لم يستطع هذا الحضور الإيراني أن يصمد أمام جملة من أحداث السنوات الأخيرة ليتراجع بشكل ملحوظ كما تشير إستطلاعات الرأي لا سيما ذلك الذي أجراه معهد زغبي الدولي مؤخراً. بإيجاز, إن الدور الإيراني مستقر وثابت في الدائرة الشيعية ولا يمكن مزاحمته أو منافسته في المدى المنظور, فيما بلغ مداه في الساحة السنية بعد سنوات المد.
وعليه إن صعود مصر لن يضير طهران كثيراً, بل العكس إذا كان موقف القاهرة من إسرائيل كما يرجوه كثيرون. أما الأتراك فهم الأكثر قلقاً وتضرراً من الصعود الإقليمي لمصر إذ أنهما يتشاركان الوعاء ذاته أي العرب السنة, خاصة أن لمصر أفضلية العروبة على الأتراك "العثمانيين". وعليه يمكن فهم هذا التلازم بين سقوط مبارك وإرتفاع النبرة التركية في القضايا العربية, كحديث أردوغان عن عزمه زيارة غزة, والموقف الذي صدم الكثيريين في الشأن السوري, بالإضافة الى ما سرب عن حديث لأردوغان حول حقوق العراقيين السنة أثناء لقائه الأخير مع المالكي.
أما التنافس السعودي – التركي فمحدود لأسباب تتعلق بالسعودية نفسها, التي عجزت عن تقديم مشروع عصري للدولة الإسلامية سواء في طبيعة النظام , أو علاقته بالمجتمع, أو مساهمتها في القضايا الإقليمية وإرتكازها على مذهب ديني منبوذ حتى ضمن الساحة السنية بالإجمال, ناهيك عن تبعيتها شبه المطلقة للولايات المتحدة لدرجة يصعب فيها الحديث عن مشروع سعودي خاص للمنطقة. وعليه ستسعى القوى الثلاث إيران, تركيا والسعودية الى التقارب مع مصر وهذا ما يبدو جلياً منذ سقوط مبارك, لا سيما من قبل السعودية التي تدرك أنها بدون مصر لا تكاد تساوي شيئاً في الحسابات الإقليمية بل وعلى المدى البعيد يمكن لمصر إقفال أبواب العالم العربي بوجهها الى حد كبير. في حين أن مصر ستسعى للإستفادة من الفرص التي ستقدمها القوى الثلاث ولكن بما يحفظ لها القدرة على التمايز ورسم مسار خاص بها.
بالمجمل, وعلى المدى البعيد سيبقى التعاون المصري-التركي مقيداً بالتنافس الإقليمي حتى مع وصول الإخوان الى مركز مؤثر في صنع القرار, لأسباب تتعلق بدور العسكر في مصر, الضغوط الداخلية المصرية, والإنقسامات داخل الجماعة إضافة الى البعد التاريخي في العلاقات التركية المصرية التي حكمها التنافس لفترات طويلة. وعليه, سيدفع الصعود المصري في حال فشلت تركيا في إحتواءه الى جملة نتائج من جهة تركيا: السعي لتمتين التقارب مع طهران, التخفيف من حدة خطابها تجاه إسرائيل, والتركيز أكثر على مصالحها في المحيط الأوروبي, وسط آسيا ومنطقة بحر قزوين.
لقد طغى في السنوات الماضية الحديث عن التوتر السني- الشيعي على علاقات اللاعبين الإقليميين, الى درجة أدت الى أغفال أثر المنافسة السنية –السنية على سياسات المنطقة وسلوك القوى الإقليمية وعلاقاتها المتبادلة. إذا أخذت مصر خيار الصعود كدولة إقليمية مستقلة, فإن المنافسة القادمة هي تركية – مصرية بالدرجة الأولى وهو ما يتوجس منه الأتراك, في حين ستبقى السعودية على هامش هذا التنافس وستتحرك فيه بناء على إيقاع حساباتها في مواجهة طهران.
حسام محمد مطر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق