مقال نشر في جريدة الأخبار بتاريخ 23\2\2010
مما يثير الإستغراب أن الجهة السياسية التي قامت بالتنظير وبحدة متناهية خلال السنوات الأربع الماضية لفكرة الحكم الأكثري ونقض فكرة الديمقراطية التوافقية , أن تبادر هي ذاتها إلى إظهار هذا المستوى من الحساسية بل العدائية ليس إتجاه إلغاء الطائفية السياسية بل مجرد فكرة تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية . وعليه كان لا بد من طرح السؤال التالي , هل يستقيم رفض الديمقراطية التوافقية بكل مقتضياتها ( بما فيها الثلث زائد واحد خاصة في لحظات الانقسام الاقليمي\ الداخلي الحاد ) بالتوازي مع رفض فكرة إلغاء الطائفية السياسية أيضا ؟ أي بصياغة أبسط هل يصح ان تجتمع كل من "لا" للديمقراطية التوافقية و "لا" لإلغاء الطائفية السياسية؟ على أن الإجابة عن هذا السؤال ستصل إلى محصلة مفادها أن رفض أحد هذين المفهومين لا يمكن إلا أن ينتج القبول بالأخر.
إن رفض صيغة الحكم التوافقي تعني وكما كان يصرح أصحاب هذا الإتجاه , إعتماد صيغة الحكم الأكثري كما في الأنظمة البرلمانية الكلاسيكية وبالتالي فان الأكثرية النيابية تحكم والأقلية تعارض, إلا ان الفارق الذي لا يمكن تجاهله والناشىء من خصوصية الواقع اللبناني هو ان الإنقسام السياسي والى حد بعيد جدا يمثل في ذات الوقت إنقسام طائفي \ مذهبي على المستوى الديموغرافي , حيث يكفي ذكر إسم الطائفة \ المذهب مثلا ليتحدد الموقف السياسي إتجاه أي قضية اوحزب سياسي او الإرتباط الاقليمي او حتى العدو الخارجي والتي تصبح جميعها كمتغيرات تابعة لمتغير مستقل هو الانتماء الديني , وعليه تصبح الأكثرية والأقلية بهذا المعنى ذات صبغة طائفية \ مذهبية حيث الأكثرية يغلب عليها لون طائفي \ مذهبي مهيمن بوضوح واقلية بصفة مماثلة وبالتالي فإن احدى الطوائف او المذاهب الكبرى على الاقل اصبحت خارج دائرة الحكم .
كانت السنوات التي تلت الخروج السوري الذي كان ضابطا للعملية السياسية بتوافق دولي اقليمي ( اميركي – سعودي بالتحديد ) شاهدا إضافيا الى سابقاته من التاريخ السياسي اللبناني حول تماثل الانقسام السياسي \ الطائفي وإن بمستوى اكثر حدة , حيث انقسم المشهد السياسي بعد انتخابات 2005 النيابية الى اكثرية نيابية عصبها السنة واقلية نيابية عصبها الشيعة وسط توازن نسبي للقوى المسيحية وان كان يميل بإتجاه الاقلية . انطلاقا من هذا الواقع تبنى فريق من المسيحيين يتقدمهم غبطة البطريرك الماروني نصرالله صفير وبحكم تحالف هذا الفريق مع تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي اللذين شكلا رافعة الاكثرية النيابية مقولة ان الاكثرية تحكم وأن التوافقية بدعة وهي إنما تجعل السلطة كعربة يجرها حصانين بإتجاهين متعاكسين مما يعطل دور السلطة ويشلها وبالتالي فالصيغة البرلمانية الاكلاسيكية هي الافضل على مستوى الفعالية والإنتاجية وان كان على حساب تغييب طائفة أساسية عن الحكم كالطائفة الشيعية مثلا التي هي الاكبر عدديا او على الاقل تكاد ان تكون, إضافة الى ما يقارب 70% من الطائفة المسيحية , مع تناسي محورية التوافقية الطائفية والمشاركة في الدستور اللبناني.
إن المناداة بحكم الاكثرية ورفض منطق التوافقية الطائفية من باب ضمان الفاعلية والإنتاجية في عمل السلطة وتماثلا مع نموذج النظام البرلماني كل ذلك يصلح أيضا كأساس لإعتماد الديمقرطية العددية دون القيد الطائفي كما في اي نظام برلماني وبغض النظر عن وجود نص دستوري بذلك , وهذا مما قد يؤدي الى غياب او ضعف حضور بعض الطوائف في السلطة نتيجة الإختلالات الديموغرافية أو التحالفات السياسية تماما كما هي الحال عند إعتماد صيغة الاكثرية والاقلية كما طرحها مسيحييو 14 اذار . وعليه لا يجوز لهذه القوى رفض بند تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية او الالغاء بذاته بحجة الخوف من تهميش الدور المسيحي في السلطة الى حد المطالبة بالفيدرالية كضمانة على حد تعبير النائب سامي الجميل , كونهم إرتضوا الصيغة الأخرى التي أنتجت فعليا وليس فقط نظريا تهميشا لطائفة باكملها ولأغلبية طائفة اخرى , لكن كيف وهي الحال مع وجود نص دستوري يوجب تشكيل الهيئة؟!!.
فعلى حين غرة إستفاق مسيحييو 14 اذار على ضرورة حفظ الصيغة الطائفية التوافقية بما يثَبت المناصفة ويمنع طغيان طائفة على أخرى حتى ولو على حساب نص دستوري واضح يؤسس لإلغاء الطائفية السياسية وتصدوا على هذا الاساس لطرح الرئيس بري حول تشكيل الهيئة المذكورة بسيل من الفرضيات والتشكيكات والاتهامات, على أنه لو صدق ان الرئيس بري يطرح تطبيق الفقرة الدستورية المتعلقة بالهيئة من باب التكتيك السياسي كما يتهمه هذا الفريق, لكان الأجدر بالرئيس بري ان يستعمل هذا التكتيك في اللحظة السياسية الأشد حراجة عندما كانت تتعرض طائفته للتهميش السياسي والمعنوي ويتهم بإغلاق البرلمان نظرا لما إعتبره ( كرئيس للسلطة التشريعية) فقدان الحكومة حينها للشرعية الميثاقية والدستورية بعد إستقالة وزراء الطائفة الشيعية من الحكومة , ودولته ممن لا تنقصهم الحنكة والدراية لهكذا تكتيك لو شاء.
بالمحصلة لقد ارتكب الفريق المسيحي في 14 آذار خطأ استرايجيا بحق الدور المسيحي عندما اندفع لواجهة المنادين بالديمقراطية دون اعتبار للصيغة التوافقية متأثرا ومزهوا باللحظة السياسية التي جعلته ضمن حلقة الاكثرية النيابية كممثل لجزء من المسيحيين لا يتجاوز نصفهم في احسن الاحوال حتى لا ندخل في جدل الارقام . وقد استمر هذا المنطق حتى الى ما قبل تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الحالية لينقلب السحر على الساحر بعد التسوية الاقليمية \ الداخلية التي رأبت الصدع السياسي الاسلامي بشكل خاص وعلى حساب مسيحيي 14 أذار الى حد كبير بعدما إستطاع تكتل العماد عون تعزيز حضوره الوزاري وتثقيل وزنه السياسي داخليا واقليميا والمحافظة على انسجامه مع مواقفه السابقة للانتخابات لا سيما تأييد مفهوم الديمقراطية التوافقية التي يرتكز إليها الان لمحاججة خصومه بل وبعض حلفائه في ما يعتبره تحرير الدور المسيحي في السلطة والإدارات العامة من قبضة غير المسيحيين .
وبالعودة إلى السؤال المطروح, هل يستقيم رفض الديمقراطية التوافقية بكل مقتضياتها بالتوازي مع رفض فكرة الغاء الطائفية السياسية؟ فالاجابة انه إما تبني مفهوم الديمقراطية التوافقية سواء كصيغة مؤقتة للحكم بإنتظار الغاء الطائفية السياسية او كصيغة نهائية وبالتالي المبادرة الى طلب تعديل دستوري لإلغاء النصوص المتعلقة بإلغاء الطائفية السياسية , وإما السير فورا بتنفيذ النص الدستوري الحالي تجاه تشكيل الهيئة ومن ثم الالغاء, فليختاروا ولكن على طريقة "جواب نهائي ".
حسام مطر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق