نشرت هذه المقالة عبر موقع الإنتقاد بتاريخ 13\2\2012
لا يزال السؤال حول مصير الأزمة السورية هماً إقليميا ودولياً ، إذ أن نتائج الأزمة سيكون لها بدون أدنى شك إرتدادات عميقة على توازنات القوى في المنطقة. تتعدد التكهنات حول مآل الأزمة بين قائل بالحسم لصالح النظام وبين متيقن من سقوطه ولو بعد حين. إلا أنه وبالنظر الى وقائع الأزمة وتعقيداتها الميدانية والإجتماعية والخارجية، تبدو كلا الوجهتين شديدة التبسيط والدعائية والشعبوية. فبعد أكثر من عشرة أشهر على المواجهة القاسية بدأت ترتسم بوضوح حدود القوة والتأثير لدى كلا الطرفين، النظام والمعارضة المسلحة.
فالقول بإمكانية الحسم العسكري او حتى السياسي لصالح النظام يتجاهل جملة من المعطيات والوقائع، أبرزها: التمدد المسلح للمعارضة في الريف السوري والمناطق الحدودية وضواحي بعض المدن الكبرى، إنتقال المواجهة الى نموذج جيش نظامي ـ قوة تمرد، والتي يستحيل فيها تحقيق نصر ميداني لا سيما بالنظر الى الجغرافية السورية والإحتضان الإجتماعي لقوى التمرد في جملة من مناطق نفوذه، وتصاعد الخطاب المذهبي الذي يضرب أسس المجتمع السوري الإجتماعية والثقافية، الدعم اللوجيستي الهائل ـ عتاداً وعديداً ـ من أغلب الدول المجاروة لسوريا، وثم دور اللاعبين الدوليين ووسائل الإعلام.
يضاف الى ذلك، بأن الحقبة الحالية تشهد تدهوراً حاداً في فعالية القوة الصلبة بفعل التغيرات في مفهوم القوة والشرعية ودور الإعلام الحديث والرأي العام الدولي. مع العلم أن النظام يعاني من إستنزاف إقتصادي ـ خدماتي يجعل من إستخدام القوة مكلفاً، ما يجعل النظام مدركاً بعمق لحدود قوته العسكرية لذا تميل تكتيكاته نحو توجيه ضربات دقيقة محددة وفي المناطق ذات الأهمية الخاصة كريف دمشق ومدينة حمص والحدود التركية، وذلك بهدف تجنب شرك التمدد المفرط والإستنزاف.
لقد سبق لمهندس "الثورة العربية الكبرى" المعروف بـ "لورنس العرب" أن اشار في خلاصة تجربته الى وجوب " أن يحظى التمرد بقاعدة مسالمة، بشيء محصن ليس من الهجمات فحسب بل حتى من الخوف من هكذا هجمات، كما كانت الصحراء أو مرافىء البحر الأحمر بالنسبة للثورة العربية. ويجب ان يتمتع التمرد ببيئة صديقة، ويكفي ان تكون صديقة بالمعنى السلبي أي ان تقبل بالثوار ولا تتعاون مع عدوهم. فالتمرد يمكن صنعه فقط من خلال 2% من السكان كقوة ضاربة و98% من السكان المتعاطفين. هذه الثلة من المتمردين يجب ان تمتلك مهارات السرعة، التحمل، الانتشار، والإستقلالية عن خطوط الإمداد. كما يجب أن يمتلك المتمردون التجهيزات التقنية لتدمير او شل خطوط الإتصال المنظمة للعدو". يدرك داعمو المعارضة المسلحة السورية لا سيما الأميركيين عناصر هذا النوع من المواجهة فهم كانوا من ضحاياه في فيتننام والعراق وأفغانستان، ولذا ليس مستغرباً التطور السريع الذي تشهده تكتيكات ما يسمى " الجيش الحر" في هذا المجال.
في المقابل يغفل القائلون بسقوط النظام جملة وقائع مقابلة: التماسك الواضح للجيش السوري وعدم حصول إنشقاقات كبرى، مهارة ووحدة الدبلوماسية السورية، سيطرة النظام على أغلب المدن الأساسية والتي تضم الأغلبية العظمى من السكان، التأييد الواسع للنظام لا سيما ضمن الفئات المؤثرة، المحور الاقليمي المقاوم والذي تشكل دمشق أبرز أركانه وهو ما يؤمن لسوريا عمق إستراتيجي وذراع مقتدرة في جملة ملفات حساسة، الموقف الهام لجملة من الدول الكبرى لا سيما الصين وروسيا بما يقيد قدرة اللاعبين الدوليين على التأثير في الداخل السوري. يضاف الى ذلك وهن وإنقسام المعارضة السورية مع بروز إمكانية لتصادم سياسي ـ ميداني بين أطيافها، نفور السوريين بشكل عام من أنظمة الخليج التي تتصدر مشهد الدعوة الى ديموقراطية سورية، النتائج الفوضوية التي تمخضت عن الحراك العربي وهو ما يدفع مزيدا من السوريين الى المخاطرة بالسير وراء الإصلاحات الموعودة بدل المخاطرة بمصير سوريا كوطن.
لذا وعلى عتبة عام من إنطلاق الأزمة السورية بدأت ملامح الستاتيكو الميداني بالتبلور، وحدود وضوابط كلتا القوتين تظهر أكثر وضوحاً، وعنصر المباغتة إنحصر في النواحي التكتيكية، ويمتد هذا الستاتيكو الى ميزان القوى الدولية والإقليمية. مثلاً ، لقد سقط الرهان الذي طال الحديث عنه بأن طهران وموسكو سرعان ما سيقايضان نظام الأسد بجملة ضمانات أمنية، تماما كما سقطت إمكانية تطبيق النموذج اللليبي. بناء على هذا كله، فإن خط الشرخ السوري أصبح واضحاً وشبه ثابت وهو يقسم الإقليم السوري الى مناطق نفوذ بين الطرفين، والذي عليه سيدور الجزء الاكبر من المناوشات والاحتكاكات العسكرية في ظل اختراقات متبادلة بحسب تغير الظروف المذكورة أعلاه.
من حيث تأثيرات هذا الستاتيكو على التوازن الإقليمي، تبدو سوريا نسبياً قادرة على ممارسة دورها ضمن محور المقاومة كعمق إستراتيجي وعقدة وصل. في المقابل نجح الأميركيون وحلفاؤهم في تشتييت القوة السورية، إستنزافها، والإنتقاص من فعاليتها في أي مواجهة مستقبلية مع "إسرائيل". في الخلاصة يبدو ان الستاتيكو الميداني بات شبه متحقق، بالتوازي مع مبارزة سياسية محتدمة ، الإصلاحات من جهة النظام والضغوط الإقتصادية والدبلوماسية من ناحية داعمي المعارضة. لقد إنقلبت المواجهة في سوريا من حالة نظام ـ معارضة الى حالة الحرب الأهلية المحدودة، بما يفرض تغييراً في أدوات المواجهة ووسائل إنهائها وشروط التسوية فيها. مع تعذر الحسم لكلا الطرفين لا تبقى إلا التسوية السياسية، ولكن بأي أثمان؟ وأي شروط؟ وبين من ومن؟ أو ربما سيقتنع الجميع بواقع الحال، سوريا المنقسمة على نفسها، غير ذلك لا تبقى إلا المواجهة الشاملة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق