مقال نُشر في الإنتقاد, بتاريخ 9 تشرين ثاني 2012
حسام مطر *
يبدو المشهد الإقليمي في أشد لحظاته تعقيداً وضبابية لا سيما في ظل الإنتفاضات والتحولات التي تعصف بالمنطقة العربية منذ ما يقارب السنة والنصف. لم تأت هذه من فراغ بل سبقها تحول عميق في البيئة الإقليمية وانقلاب جوهري في ميزان القوى الإقليمية بفعل الهزائم المدوية للمشروع الأميركي ـ الصهيوني في المنطقة لا سيما في العراق ولبنان وغزة. إن تراجع النفوذ الأميركي خلال السنوات الأخيرة أنتج فراغا في القوة إنعكس إنكشافاً لدى الأنظمة العربية التابعة له وهو ما أسس لإمكانية إزالة النظام العربي “القديم” الموالي لواشنطن كما حصل بالتحديد في تونس ومصر. في مواجهة هذا التحدي تبنت واشنطن سلسلة خطوات من أبرزها:ـ إتاحة المجال لدور تركي جديد في المنطقة قادر على موازنة الدور الإيراني من خلال قيادة تركيا لحلف سني نظراً لما تمتلكه من قدرات وإمكانات وموقع وارتباطها الإستراتيجي بحلف الناتو.
ـ دفع الدول الخليجية الى تحمل مسؤوليات إضافية ومباشرة في المواجهة الإقليمية وذلك من خلال مجلس التعاون الخليجي والجامعة العربية، إذ إن واشنطن لم تعد قادرة على تحمل اكلاف لعب الدور المباشر والكامل.
ـ رفع مستوى التنسيق الأمني والعسكري مع الكيان الصهيوني لمواجهة التحديات الأمنية المتزايدة من جبهات عدة، وهو ما تمت ترجمته بزيادة الدعم العسكري وبرنامج القبة الحديدية وتأكيد الإلتزام الأمني الكامل من قبل إدارة أوباما تجاه “إسرائيل”.
ـ إنتقال الولايات المتحدة الى “القيادة من الخلف” والإكتفاء بتقديم دعم دبلوماسي ولوجيستي لحلفائها في المنطقة، مع التركيز على القوة الناعمة بدل تلك الصلبة.
ـ لم تتمسك واشنطن بحلفائها الذين سقطوا بل سارعت الى محاولة التفاهم مع التيار الإسلامي الصاعد لصياغة تفاهم متبادل على مستوى القضايا الكبرى، ولكن رغم بعض التفاهمات الجزئية إلا ان عدم الثقة ما زال يحكم علاقة الطرفين.
لم يكن هذا التراجع في النفوذ الأميركي ممكناً لولا الهزيمة المدوية في تموز 2006 والتي كانت المحاولة الأميركية الأبرز للخروج من المأزق العراقي ومحاولة قلب الطاولة على سوريا وإيران اللتين أطبقتا على المشروع الأميركي في العراق في تلك المرحلة، وقد كان للانتصار في حرب تموز جملة مفاعيل بالغة الأهمية:
ـ كرست الحرب محدودية القوة الإسرائيلية في فرض وقائع سياسية تعكس مصالحها في المنطقة.
ـ لم يعد بإمكان “إسرائيل” شن أي حرب مستقبلية بعيداً عن الإرادة الأميركية، نظراً لاحتمالية تمدد أي معركة مقبلة الى المستوى الإقليمي وهو ما يستلزم دوراً أميركياً مباشراً.
ـ تحول “إسرائيل” الى عبء إستراتيجي على الغرب سواء مادياً أو معنوياً، وهو ما يثير إنقاسامات داخلية متزايدة في الغرب لا سيما الولايات المتحدة عن جدوى الدعم اللامشروط للكيان الصيهوني.
ـ إنتقال “إسرائيل” الى مستوى الردع الدفاعي، والإهتمام بتحصين الجبهة الداخلية وردع خصومها من الهجوم، بعدما فقدت القدرة على المبادرة الهجومية والحسم السريع.
ـ رفعت الحرب من وزن حزب الله الإستراتيجي في المعادلة الإقليمية.
كل هذه التحولات العميقة في توازنات المنطقة والتي ساهمت في تضرر صورة الولايات المتحدة وشرعيتها وإستنزافها إقتصاديا، فاقمت من الازمة الإقتصادية التي تعصف بالغرب منذ ثلاث سنوات. في مقابل هذا التراجع الأميركي ومحاولته الدفع بدور تركي ـ خليجي الى الواجهة برزت بقوة المصالح الروسية ـ الصينية على المستوى الدولي وخاصة في الشرق الأوسط نتيجة أهميته الجيو ـ إستراتيجية. تجد الصين أن الولايات المتحدة تظهر عدائية متزايدة تجاه صعودها وتدفع بمزيد من القوات والموارد باتجاه منطقة الباسيفيك، ولذا بدأت الصين تدرك بشكل متزايد حاجتها الى سياسة خارجية أكثر وضوحاً ودور أكثر فاعلية في الشرق الأوسط لموازاة الضغط الأميركي، إلا ان هذا التوجه ما زال في بداياته.
التغير الحقيقي هو في الموقف الروسي، حيث يجد الروس فرصة لاستعادة بعض النفوذ الدولي وممارسة دور متزايد في ظل محدودية القوة الأميركية. إلا أن الروس يتزايد إهتمامهم بالشرق الأوسط خوفا من خسارة ركيزتيهما المتبقيتين إيران وسوريا لحساب دور تركي أكبر يطمح للتمدد أيضا باتجاه آسيا الوسطى التي تصنف ضمن المجال الحيوي الروسي حيث تنشط الحركات الإسلامية الإنفصالية.
في ظل كل هذه التطورات أصبح قرار الحرب في المنطقة قراراً شديد التعقيد والخطورة والصعوبة باعتبار أن أي حرب ستكون مرشحة لتتوسع إقليمياً، وبالتالي لا بد لقرار الحرب أن تشترك فيه مجموعة دول إقليمية ودولية. في اللحظة الراهنة يبدو الخيار الإسرائيلي هو انتظار مآلات الأزمة السورية لأنها الأقل تكلفة كون “إسرائيل” ليست متورطة بها بشكل مباشر، ويمكن في حال سقوط النظام أن تتغير حسابات المعركة بالنسبة لها بالكامل، وهذا التقدير تشترك فيه مع الأميركي أيضاً. الإسرائيلي منشغل في دراسة التغييرات التي تطرأ على البيئة الأمنية الجديدة ودراستها وإعادة تشكيل سياسة دفاعية جديدة تتناسب معها ولكنه ما زال يعتبر التهديد الإيراني هو الأكثر حضوراً. وفي شأن الخيارات الإسرائيلية يمكن إيراد النقاط التالية:
ـ ان القرار الإسرائيلي بالحرب أصبح خاضعاً بنسبة كبيرة للموقف الأميركي في المنطقة ولا يمكن لـ”إسرائيل” الإنخراط في معركة بمعزل عن موافقة الولايات المتحدة، لذا لا يمكن تقدير الخيارات الإسرائيلية بمعزل عن سياسة واشنطن في الشرق الاوسط وأولياتها.
ـ تعتبر كل من “اسرائيل” والولايات المتحدة أن أي حرب إسرائيلية حالية على لبنان من شأنها تقويض الجهود الاميركية في سوريا وتعيد تعزيز شرعية المقاومة. كما أن هجوما كهذا قد يشكل ذريعة تتيح لمحور المقاومة توسعة الصراع بهدف تخفيف الضغط عن النظام السوري.
ـ هناك قلق إسرائيلي بعد زوال النظام المصري ووهن النظام الأردني لاحتمال أن دخول قوى عربية الى اي مواجهة مقبلة أصبح جدياً، إذ ان مبارك شكل ضامناً لمنع القوى المصرية من التدخل في الحروب السابقة ولكن الآن يمكن بسهولة لقوى عربية ان تتدخل في أي صراع بين حزب الله و”إسرائيل” أو حماس و”إسرائيل”.
ـ لكن يثار تساؤل حول إمكانية قيام “إسرائيل” بتوجيه ضربة محدودة لعمليات نقل سلاح كيميائي من سوريا الى لبنان، عند هذا المستوى من المحتمل جداً ان تبادر “إسرائيل” الى هذه الخطوة ولو بدون الموافقة الأميركية.
ـ من الإحتمالات الجدية هو توسع الصراع في سوريا الى صراع إقليمي وهذا ما يثير قلقاً من ناحية بالنسبة لـ”إسرائيل” كونها ستكون الهدف الأفضل لمحور المقاومة، ولكن في ذات الوقت هي تستعجل سقوط الأسد وترى أن التدخل الدولي في سوريا سيجعل “إسرائيل” تبدو في المحور الذي يضم قوى عربية وإسلامية بوجه إيران وحزب الله، وهو ما يخدم الدبلوماسية العامة الإسرائيلية مع الرأي العام العربي.
ـ الخيارات الإسرائيلية الحالية مرتبطة بما ستؤول إليه الأزمة السورية من ناحية، وبالملف النووي الإيراني من ناحية أخرى. تتحضر “إسرائيل” للسيناريو الأسوأ وتواصل إستعداداتها الميدانية، في حال فشل الغرب في إيقاف البرنامج النووي الإيراني ولم يتمكن من الإطاحة بالنظام السوري.
ـ يفترض البعض أن “إسرائيل” والولايات المتحدة ربما تستغل إنشغال النظام السوري وتضرر شرعية حزب الله على المستوى الإقليمي والإنقسام الداخلي حول السلاح والضغوط المتزايدة على إيران، للقيام بضربة عسكرية في ظل هذه الظروف المثالية، ولكن بالنظر لما اوردناه سالفاً يبدو هذا الإفتراض ضعيفاً.
ـ الخيار الإسرائيلي ـ الأميركي لهذه المرحلة هو الإستمرار في إستنزاف المقاومة لا سيما معنوياً وعزلها عن الرأي العام العربي وتعميق الإنقسام الداخلي حولها، وتكريس صورة جديدة للمقاومة كميليشيا مذهبية إجرامية تابعة لإيران، وذلك الى حين اكتمال شروط تنفيذ ضربة عسكرية.
في الخلاصة، ورغم الضجيج الذي يثار في أكثر من جبهة، تبقى التطورات السورية هي الفيصل في المرحلة المقبلة مع إمكانية متزايدة لتوسع الصراع الى المستوى الإقليمي. تبدو الولايات المتحدة حريصة على عدم توسع الصراع في هذه المرحلة لعدم إعطاء ذريعة لتدخل أكثر وضوحا للمقاومة وإيران وروسيا ولعدم تشتيت الإنتباه عن الساحة السورية لا سيما مع إعتقاد الإدارة الأميركية أن العقوبات والضغوط على إيران بدأت تؤتي أكلها. ولذا تضبط واشنطن القرار الإسرائيلي الإستراتيجي وتقيده في إنتظار إكتمال كافة الشروط لمسرح عمليات الحرب المقبلة على المستويات كافة.
* باحث في العلاقات الدولية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق