أطلق الإتحاد الأوروبي ما يعرف ب " سياسة الجوار الأوروبي " عام 2004 وذلك بهدف " منع ظهور خطوط إنقسام إضافية بين الإتحاد الأوروبي والدول المجاروة له , والعمل بدل ذلك لتمتين الإزدهار , الإستقرار , والأمن لجميع الأطراف" . وقد كانت هذه السياسة في صلب رؤية الأمن الإستراتيجي الأوروبي كما ورد في العام 2003 , وتشمل هذه السياسة الدول التي تتشارك بحدود برية أو بحرية مع الإتحاد الأوروبي وذلك من خلال إتفاقيات ثنائية تعرف ب " خطط عمل سياسة الجوار الأوروبي" , وعليه كان لبنان إحدى هذه الدول.
يعرف الإتحاد الأوروبي نفسه كمشروع سلام وقوة مدنية , وقد نصت معاهدة لشبونة الاخيرة أن الاتحاد يهدف لنشر السلام, ولذلك يعتبر الإتحاد أن " المؤشرات الحيوية " لمنع الصراعات وحلها تتمثل في: حقوق الانسان والأقليات, الديموقراطية, شرعية السلطة, آليات حل الخلافات, دور القانون, التكامل الإجتماعي, التنمية المستدامة وإزدهار المجتمع المدني, وعليه يهدف الإتحاد إلى ما يعرف ب " تحويل الميزات البنوية للصراعات" أي معالجة "بذور العنف البنيوي" انطلاقاُ من معالجة الجذور السببية للظواهر وليس نتائجها فقط , ومثال هذه البذور ,الظلم الاجتماعي , التنمية غير المتوازنة والتمييز.
السياسية الخارجية البنوية
هذه المقاربة للسياسة الخارجية في الإتحاد الاوروبي هي ما أصبح يعرف ب " السياسة الخارجية البنيوية " والتي تتصف بالشمولية والإستدامة والتي تعنى بالتأثير في البنى الإجتماعية , الثقافية , الإقتصادية , القانونية والسياسية ولكن الأهم هي البنية الفكرية للمجتمعات المستهدفة. أي ان هذه السياسة تركز على التدخل مبكراً للتأثير على آليات عمل البنى المختلفة وليس الإستجابة الإنفعالية لأحداث محددة, هي سياسة ليست موجهة نحو السلطة فقط بل قبلها الى الأفراد والمجمتع, مع التركيز على برامج الخاصة بتفاعل المواطنين والأفراد بين الطرفين كبرامج التبادل الدراسي والمنح والبعثات الثقافية والنشاطات رياضية والمبادرات المدنية. وعليه, فإن هذه السياسة هي سياسة بعيدة الأمد وتستلزم موارد وجهود مضنية - لذا من الصعب لدولة واحدة أن تتبعها إلا بحال كانت قوة عظمى, وهنا تبرز أهمية الوحدة الوروبية - ولذلك فإنه في حال نجاحها في تكريس وتثبيت المعايير والقيم والممارسات المطلوبة فإنها ستكون كفيلة وحدها بإنتاج سياسات وسلوكيات محلية تنسجم مع المصالح الاوروبية من دون الحاجة الى التدخل المباشر والضغوط .
وعليه يطلق الإتحاد جملة سياسات للتأثير على الظروف والبنى على المستوى المحلي, عبر الإنخراط البنَاء مع الأطراف المتصارعة ( مشاريع شراكة وتعاون ) , عبر الترغيب والجذب بمساعدات مالية مشروطة بإصلاحات في مجالات السياسة الاقتصادية , الحوكمة وحقوق الانسان , مع التشديد على اهمية الإنخراط والتعاون مع تشكيلات المجتمع المدني الذي يفترض أنه يمتاز بالصدقية , الشفافية والفعالية أكثر من المؤسسات الحكومية الملوثة بالفساد والتسلط والفشل الإداري.
خطة لبنان 2011-2013
تنبع اهمية لبنان بشكل خاص بالنسبة للإتحاد الأوروبي من عوامل عدة أبرزها , الصلات التاريخية العميقة مع بعض دول الإتحاد لا سيما فرنسا التي كانت تعتبره إحدى أهم ساحات نفوذها في المنطقة والتي لا يزال يراودها ذلك الحلم الوردي , ثانياً يعتبر لبنان مسرحاً أساسياً وحيوياً في الصراع مع إسرائيل وتتشكل داخله أقوى حركة مقاومة في المنطقة والتي يعتبرها الأوروبيون عاملاُ من عوامل التوتر والتصعيد مما يستدعي تكثيف الجهد لتغيير البنى التي تستند إليها هذه المقاومة. كذلك يعتبر بعض الاوروبيين أن لبنان ورغم سوء اوضاعه إلا ان تميزه بالتعددية وبدرجة من الحرية السياسية يمكنه من أن يشكل نموذجاُ لدول المنطقة وملهماً لها في حال إستقرار أوضاعه , بالإضافة الى ذلك تبرز قضية اللاجئين الفلسطينيين وتحدياتها المختلفة وكذلك الخوف من إنبعاث منظمات أوصولية ذات بعد "إرهابي".
إنطلاقاً من هذه الرؤية الأوروبية للجوار, وقَع لبنان خطة العمل الخاصة به في أيار 2006 قبيل العدوان الإسرائيلي , وتعتبر " الشراكة والجوار الاوروبي" بمثابة الأداة المالية لسياسة الجوار الاوروبي في لبنان وكجزء منها تم وضع الورقة الإستراتيجية للبنان 2007 – 2013 والتي حددت أهداف التعاون الاوروبي , والأولويات وسياسة الإستجابة وذلك بناء على " الاجندة السياسية للبلد الشريك والأوضاع السياسية , الإجتماعية , والاقتصادية السائدة فيه" , وبالإستناد الى هذه الإستراتيجية تم وضع " برنامج الإرشاد الوطني " الذي يقدم بالتفصيل إستجابة الإتحاد الاوروبي ويسلط الضوء على أهداف البرنامج والنتائج المتوقعة والمجالات ذات الأولوية.
يشتمل برنامج الإرشاد الوطني على ثلاث مجالات هي الإصلاح السياسي , الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي , التعافي وإعادة التنشيط الاقتصادي , وقد بلغت ميزانية البرنامج 187 مليون يورو لمرحلة 2007 – 2010 , فيما تبلغ موازنة البرنامج المقبل 150 مليون يورو على مدى ثلاث سنوات 2011 – 2013 بزيادة قدرها 7 % بالمقارنة مع الفترة السابقة من البرنامج والتي بلغت عام 2009 \ 43 مليون يورو – 2010 \ 44 مليون يورو , فيما ستبلغ عام 2011 \ 45 مليون يورو – 2012 \ 50 مليون يورو – 2013 \ 55 مليون يورو.
أما فيما يخص توزع الميزانية على مجالات البرنامج, فقد شهد البرنامج تعديلاً في الاولويات حيث كان مجال "التعافي وإعادة التنشيط الاقتصادي" يحتل الصدارة بنسبة 45% من موازنة 2007 - 2010 وذلك لمعالجة أثار العدوان الاسرائيلي حينها , أما في البرنامج الجديد فتبلغ نسبته 22,7% أي ما مقداره 34 مليون يورو , وهي تشمل : التنمية المحلية والحكم المحلي ( 20 مليون يورو ) تحسين الظروف الحياتية للأجئين الفلسطينيين ( 9 مليون يورو ) , نزع الالغام وإزالة الذخائر غير المنفجرة ( 5 مليون يورو ) .
فيما يتصدر مجال الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي رأس الأولويات بنسبة 60,7% أي 91 مليون يورو بعدما كانت يشكل 46% في برنامج 2007- 2010, وهي تنقسم بين المساعدة التقنية والتوأمة ( 18 مليون يورو) والدعم الموجه لقطاع الإصلاحات ( 73 مليون يورو ) , وتشمل خطة العمل : تحفيز النمو وزيادة التنافسية في الإقتصاد اللبناني , إصلاح القطاع التعليمي , البنية التحتية لا سيما المياه والنقل والطاقة , البيئة والتغير المناخي .
فيما يستحوذ مجال الإصلاح السياسي على نسبة 16,7% أي 25 مليون يورو مقارنة مع نسبة 12 % في برنامج 2007 -2010 , وهو يشتمل على المحاور التالية : دعم فعالية الإدارة والقضاء ( 5 مليون يورو ) دعم تعزيز الديموقراطية وحقوق الانسان والحكم الرشيد ( 12 مليون يورو ) إصلاح القطاع الأمني ( 8 مليون يورو).
خلاصة وتساؤلات
إلا أنه يبقى طرح تساؤل أساسي وبديهي حول فعالية هذه السياسات ومستوى تأثيرها , وهي التي تواجه جملة من التحديات التي تميز الوضع اللبناني , حيث أن البنى المستهدفة ذات قابلية عالية للتكيف الى درجة القدرة على إمتصاص المساعدات وتدويرها في منظومة الفساد السياسي والإداري , ويضاف الى ذلك مخاطر الإعتداءات والتهديدات الإسرائيلية كماحدث عام 2006 والتوترات الأمنية الداخلية , وأيضاً على مستوى البنية الإجتماعية فإنها لا زالت تبدو عصية على التغيير بسبب حدة الإنقسام وطبيعته الطائفية والذي تجري تغذيته بشكل مستدام ومتواصل .
أما التحدي الأبرز فهو التأثير على البنية الفكرية - قاعدة الهرم بالنسبة لسائر البنى الأخرى- وتغيير تصورات الأفراد والجماعات, والقيم والمفاهيم والإعتقادات الخاصة بهم وذلك لسببين أساسيين: الأول, وجود مجتمعات ذات إلتزام ديني حيوي وفاعل أو مجتمعات مغلقة وأقلوية خائفة وهذه ميزات أساسية في المجتمع اللبناني. ثانياً إذا كانت الجهة المانحة تثير ريبة وشكوك ومخاوف المجتمعات المستهدفة وهذا حال الاوروبيين مع كثير من الشرائح اللبنانية سواء لأسباب قيمية , تاريخية أو لأسباب سياسية كالموقف الاوروبي من المقاومة والصراع العربي الإسرائيلي والحرب في أفغانستان والعراق . وعليه ستتفاوت درجة الـتأثير بإختلاف القطاعات المستهدفة وكذلك الشرائح والفئات التي يتم العمل معها وعليها وكذلك سترتبط النتيجة بمدى مساهمة وفعالية مؤسسات المجمتع المدني وتحررها من قبضة الفاعلين السياسيين , إلا أن المحصلة الأولية هي أن البنى التقليدية للنظام اللبناني لا زالت بذورها وجذورها قوية, لا سيما تلك الفاسدة منها.
حسام محمد مطر - باحث لبناني