لا زال برنامج إيران النووي يطرح جملة من التساؤلات والإستفهامات الكبرى ولا سيما حول طبيعة هذا البرنامج , هل هو عسكري كما تدعي إسرائيل والولايات المتحدة, أم أنه ذات طابع سلمي كما تؤكد طهران لا سيما بعد فتوى المرشد الأعلى السيد علي الخامنئي . إنطلاقاً من هذا السجال تظهر الإشكالية التالية , إن لم يكن برنامج إيران النووي عسكرياً , فكيف يمكن فهم تحمل طهران كل هذه الاعباء كثمن له ؟ إن الإجابة عن هذه الإشكالية يمكن أن تعالج من خلال مقاربتين تؤدي كل منهما الى نتيجة مخالفة للأخرى , وعليه يتوجب الإلتفات الى كلا المقاربتين عند محاولة فهم خلفيات البرنامج النووي الإيراني وطبيعته وموقعه في السياسة الخارجية الإيرانية .
المقاربة الواقعية:
إن الفهم الغربي إجمالاً للملف النووي الايراني ينطلق من " مقاربة عقلانية " تؤدي الى التشكيك في الموقف الإيراني المعلن حول سلمية ملفها النووي , على إعتبار أنه من منطلق حساب التكاليف – الأرباح لا يمكن التصديق أن إيران تقبل بكل هذه الأعباء الإقتصادية , الأمنية , السياسية والعسكرية في سبيل برنامج نووي سلمي فقط بل لا بد أن يكون برنامجها عسكرياً بما يجعله يستحق كل هذه الأعباء . إلا أنه إن تمت مقاربة هذه السياسة من منظار مختلف يستند الى ارتباط الملف النووي بالهوية القومية والدينية للجمهورية الاسلامية لأصبح من الممكن الوصول الى فهم أفضل للتصميم الإيراني على إمتلاك قدرات نووية سلمية رغم التكاليف الجمة المترتبة على ذلك .
ينطلق أصحاب المنظار العقلاني من مسارين إقتصادي وأمني , فمن الناحية الاقتصادية يرفض هؤلاء مقولة أن حصول إيران على الطاقة النووية السلمية سيؤمن لها ميزات اقتصادية أساسية لا سيما في مجال توليد الطاقة والأبحاث العلمية المتقدمة , ويردون بأن إيران دولة غنية بالموارد النفطية سواء النفط أو الغاز الطبيعي , ومن ناحية أخرى فإن العقوبات الاقتصادية الدولية والأحادية المتزايدة على إيران وما تتركه من أضرار على قطاع الطاقة بشكل أساسي هي أكبر بكثير من الميزات الاقتصادية المتوقعة من البرنامج السلمي .
أما من الناحية العسكرية وبحسب الفهم الواقعي أي مدرسة القوة فإن الغاية من إمتلاك قدرات نووية هو إما زيادة القوة أو زيادة الأمن إلا أن الوقائع تظهر أن هذا البرنامج النووي لا يزيد ايران أمناً بل العكس تماما نظراً لما يستجلبه من تهديدات اميركية – إسرائيلية جدية وتسلح جنوني في محيطها الإقليمي , وبالتالي فإن فرضية سلمية الملف النووي تسقط بإعتبارها فرضية غير واقعية ولا عقلانية مما يستدعي الإحتمال بالطبيعة العسكرية للبرنامج النووي . بالخلاصة إن نظرية الخيار العقلاني لا يمكن أن تفسر البرنامج النووي الايراني بأنه ذات طبيعة سلمية وذلك نظراً الى أن حجم الأعباء والتكاليف التي تتحملها إيران في سبيل برنامج النووي لا يمكن أن تنتج مكاسب ومنافع أكبر إلا إذا كان برنامجها النووي ذا طبيعة عسكرية .
المقاربة القيمية:
إلا أنه رغم أهمية نظرية " الخيار العقلاني " وقدرتها على تفسير جملة من الظواهر والخيارات الإجتماعية والفردية إلا أنها ليست مطلقة, إذ أنها تعرف جملة من القيود والفراغات التي تضعف قوتها التفسيرية وأبرز هذه القيود هي الإيديولوجيا والعقائد والقيم التي تنتج تصورات ومقاييس مختلفة حول التكاليف والأرباح . وعليه وبإعتبار البعد الديني والقيمي للجمهورية الإسلامية فإنه لا بد من محاولة فهم برنامجها النووي إنطلاقاً من مقاربة قيمية تستند الى الهوية التاريخية والدينية لإيران , وتشتمل هذه المقاربة على ثلاثة مفاهيم , الإستقلال , العدالة, والمقاومة.
لقد تجذرت هذه المفاهيم في الخطاب والفكر الايراني لا سيما منذ انتصار الثورة الاسلامية عام 1979 , وهذا التجذر يمكن ان يفسر الثبات النسبي للسياسة النووية في كافة العهود الإصلاحية والمحافظة على السواء , مع الإشارة إلى أن مفهوم "المقاومة " بالتحديد وبما يعنيه من مواجهة القوى المستكبرة قد شهد حضوراً متزايداً منذ تولي نجاد للرئاسة . فالخلاف بين نجاد والاصلاحيين فيما يخص البرنامج النووي هي المقاربة الصدامية لنجاد وليس ذات الحق المكتسب لإيران سواء في التخصيب أو الطاقة النووية وإن كان بعض الإصلاحيين يوافق على تعليق مؤقت للتخصيب كإجراء لبناء الثقة فقط .
فيما يخص مفهوم الاستقلال فإنه ذات بعد تاريخي , قومي وديني . فإيران أو ما كان يعرف بالإمبراطورية الفارسية قد إتصفت " بتاريخ حضاري مجيد " أنتج كم هائل من الكبرياء القومي إلا أنها عانت من الغزاة الأتراك والمغول ما أنتج عندها " عقدة الضحية " بالإضافة الى ذلك كان هناك " تدخلات وإحتلالات القوى الغربية " لا سيما روسيا وبريطانيا ولاحقاً الولايات المتحدة . هذه المكونات الثلاث أفرزت حساسية ايرانية عالية تجاه مفهوم الإستقلال لا سيما بعد أنتصار الثورة وما طرحته من ضرورة تحقيق الاستقلال ضمن سياسة " لا شرقية ولا غربية " وعدم الخضوع والتبعية للقوى الكبرى وتحقيق الاكتفاء الذاتي بالإضافة الى تقديم نموذج إسلامي حضاري, مشع وفريد . كل هذا يجعل من مفهوم الإستقلالية أحد أهم ركائز السعي للحصول على قدرات نووية سلمية , وقد صرح الإمام الخامنئي في شباط الماضي بأن " الجمهورية الإسلامية حققت إنجازات عدة في المجال النووي على رغم كل الضغوط وستقوم بكل ما هو ضروري للتوصل إلى استقلالية علمية وتكنولوجية في هذا المجال".
كذلك تربط ايران تصميمها على امتلاك برنامج نووي بمفهوم العدالة الذي يعتبر ركناً جوهرياً في الخطاب الايراني والذي تغذيه التجربة التاريخية والفكرية للمذهب الشيعي , فالنظام الدولي قائم على ازدواجية المعايير وسيادة الظلم المقونن وهذا يتجسد في البرنامج النووي الاسرائيلي وغيرها من مفاهيم الامن النووي التي جوهرها التمييز ومنطق القوة , فممارسة إيران لحقها النووي هو تكريس عملي لمفهوم العدل الذي يعتقد النظام الإسلامي انه المفهوم الجوهري لإقامة الحق وممارسة السلطة لا سيما على صعيد إدارة الشؤون العالمية. وقد كررت طهران مراراً أنها تضع شرط العدل والإحترام كمقدمة لأي حوار مع القوى الكبرى وهو ما أكده نجاد مؤخراً كشرط لإستئناف المفاوضات مع مجموعة 5+1.
إلا ان المفهوم الاكثر قوة ووضوحاً هو " المقاومة " لما لهذا المفهوم من أثر في الهوية الايرانية والاسلامية وهو المفهوم الذي يتولد من واجب الجهاد بالمعنى الديني وضرورة المواجهة حتى مع إختلال موازين القوى المادية وهو ما كانت النهضة الحسينية مصداقه الأبهى وهي الملحمة التي أبدع الإيرانيون فيها ادباً وفكراُ وفناً وإلتزاماً . ويتجسد هذا المفهوم في الموقف الإيراني الرافض للهيمنة الاميركية والاستكبارية وسحق الشعوب المستضعفة والمنادي بحتمية النهضة الانسانية الكبرى للمستضعفين والتي تستلزم أعباء وتضحيات كبرى لا غنى عنها , وبهذا تكون ايران بكل ما تتحمله من تبعات بسبب برنامجها النووي انما تسعى لتكريس منطق الرفض والمقاومة وتقدم بذلك نموذجاً متقدماً في هذا المجال . إن هذه المفاهيم الثلاث هي ذات أثر بالغ في الشرعية الشعبية والدينية للنظام الاسلامي ولذا لا ينبغي إعتبارها مجرد ذرائع ودعاية خطابية .
خلاصة وإستنتاجات:
وبناء على هذه المقاربة يمكن القول أن طهران لن تتراجع قيد أنملة عن أصل " الحق النووي" إلا أنه يمكن أن تبدي مرونة في وسائل تكريس وإستخدام هذا الحق وذلك على مثال الإتفاق الإيراني- التركي – البرازيلي حول تبادل الوقود النووي, وهي عبرت عن ذلك أيضاً عبر دعوتها قبل أسابيع الى ضرورة الفصل بين الملف النووي وعملية التخصيب والتبادل أثناء المفاوضات. وعليه من غير المستبعد أن تبدي إيران مرونة إضافية فيما يخص الآليات والوسائل وعملية التبادل بما يمكن أن يؤدي في حال إصرار واشنطن على تجاهل الإيجابية الإيرانية الى إنقسام وتفسخ ما بين الموقف الأميركي مع كل من الصين وروسيا وبدرجة أقل مع الإتحاد الاوروبي أيضاً وهو ما من شأنه تهديد مصداقية وفعالية نظام العقوبات الإقتصادية الدولية . وفي الحديث عن العقوبات, انتقد ستيفن كينزر سياسة العصا والجزرة التي تتبعها الولايات المتحدة بوجه طهران معتبراً ان هذه المقاربة " تنفع مع الحمير وليس مع أمة هي أعرق بعشرة أضعاف من الولايات المتحدة وتبحث عن الكرامة والإحترام وإستعادة الكبرياء الضائع" , وناصحاً بأن الطريق الأمثل هو تفهم الحاجات الأمنية للنظام الإسلامي والتوقف عن إشعاره بالتهديد.
بخلاف ما يعتقد كثيرون, تعتبر إيران برنامجها النووي أحد أهم أركان قوتها الناعمة وليس تلك العسكرية, بحيث أن البرنامج النووي يمكن أن يعزز شرعية النظام وتجربته, ويجذب الإعجاب والولاء, ويرفع شأن وحضور الجمهورية الإسلامية في الساحتين الإقليمية والدولية, كما يمكَنها من تقديم نموذج إسلامي متميز في الدمج بين الأصالة والحداثة والذي من ِشأنه أن يكون حجة عملية في مواجهة إدعاءات فصل الدين عن الدولة. وعليه تستخدم إيران البرنامج النووي في سياق مواجهة الحرب الناعمة التي تتعرض لها والتي تتميز كونها أشد وطأة من تلك العسكرية وأكثر تهديداً للنظام الإيراني. هذا التفسير يمكن أن يشكل مدخلاً أفضل لفهم حجم الأعباء والمخاطر التي تتحملها إيران في سبيل برنامجها النووي السلمي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق