نشرت هذه المقالة في صحيفة السفير اللبنانية بتاريخ 21\10\2010
" الإستسلام ليس خياراً " هكذا يعتقد جون بولتون بحسب عنوان كتابه المنشور عام 2007 والذي يسرد فيه تجربته في الامم المتحدة بين العامين 2005 و 2006 كمندوب للولايات المتحدة , ربما أكثر ما يثير الغرابة في الكتاب هو مدى فقدان كاتبه , الممثل الدبلوماسي لأقوى دولة في العالم لدى أكبر منظمة دبلوماسية, للحس الدبلوماسي بشكل فظ ومتعجرف وساخر . يكشف الكاتب كماً مذهلاً من التفاصيل حول جملة من الملفات الحساسة خلال تلك المرحلة ومنها ما هو متعلق بلبنان سواء بالنسبة لقضية إغتيال الرئيس الحريري أو بالنسبة للعدوان الاسرائيلي عام 2006 . إلا أنه من المفيد في هذه المرحلة إعادة إستخراج وقراءة مجموعة من تعليقات بولتون حول ظروف اغتيال الرئيس الحريري وعمل لجنة التحقيق الدولية وأداء رؤوسائها المتعاقبين, وذلك ربطاً بالسجال العنيف والمتصاعد حول شفافية المحكمة واهدافها الحقيقية وكذلك دور الولايات المتحدة فيها , على أن يبقى عنوان الكتاب أي " الإستسلام ليس خياراً " حاضراً في الذهن أثناء القراءة لما له من دلالات عميقة .
يستعرض الكتاب أحداث العام 2005 وما تلاها بالتسلسل الزمني وهذا بدوره يفيد كثيراً في فهم طبيعة العلاقة والترابط بين مجموعة من الاحداث والمواقف المتلاحقة إبتداء من القرار 1559 الذي إعتبره الكاتب " يعبر طبعاً عن إرادة لبنان بأن يتخلص من الاحتلال العسكري السوري وكذلك الجهد السوري المتواصل لإبتلاع لبنان ضمن سوريا الكبرى وإنهائه كدولة مستقلة ". ويشير بولتون في هذا السياق الى تجاهل سوريا للقرار وإستخفافها به واعتباره محدود المفاعيل لا سيما بسبب الانقسام الدولي حوله في مجلس الامن , إلا أن حدث إغتيال الرئيس الحريري في 14 شباط أدى وبحسب بولتون الى أن " الحسابات السياسية تغيرت كلياً " بشكل أدى للإنسحاب السوري خلال شهر ولاحقاً إصدار القرار 1595 حول إنشاء لجنة التحقيق الدولية .
إذا ً يعتبر بولتون أن القرار 1559 لم يشكل بذاته تحدياً حقيقياً بالنسبة لسوريا في مرحلة ما قبل الاغتيال , ففي الاشهر الفاصلة بين الحدثين القرار – الاغتيال لم يتغير نسبيا المسار السياسي والتوازنات الداخلية اللبنانية وهذا كله إنقلب كلياً مع الاغتيال . إذاً يتفق بولتون مع قوى 8 أذار أكثر من حلفائه في 14 أذار في قراءة ظروف الاغتيال , أي أن القرار إفتقد لقوة الدفع الذاتية وعندها حدث الإغتيال . وإستطراداً هل يمكن لسوريا أن تحظى بحليف سني أفضل من الرئيس الحريري الذي برز تحديداً في مرحلة ما بعد القرار 1559 كشخص عقلاني يمارس المساومة ويتسم بالمرونة والنباهة السياسية ما دفعه لقبول التمديد ( وليس الجبن كما يدعي أحباؤه ) ورفض بالتالي مشروع فتنة القرار 1559 وهذا بالضبط ما قبله خلفه الحامل لقميصه والطالب بثاره .
يكمل بولتون متحدثاً عن الهدف من المساعدة الخارجية في التحقيق عبر لجنة التحقيق الدولية ,وهنا يفترض أن يتكلم بولتون عن الحقيقة والعدالة كهدف إلا أنه يكمل قائلاً وبصراحة : " المساعدة الخارجية في التحقيق ضرورية بسبب إختراق سوريا العميق والشامل للنظام القضائي والمؤسسات الأمنية اللبنانية , وبدون لجنة التحقيق الدولية يمكن لسوريا بسهولة إعلان أن الجريمة غير قابلة للحل وسيؤدي هذا التأثير الارهابي الدراماتيكي بشكل مطلق الى القضاء على ثورة الارز التي تفجرت بشكل عفوي بعد إغتيال الرئيس الحريري ". إذا لجنة التحقيق الدولية تهدف لصون ثورة الارز وليس معرفة الحقيقة , فالحقيقة لا تنفع الولايات المتحدة في شيء بينما كان يمكن لثورة الارز أن تفعل الكثير حينها , فلجنة التحقيق يجب ان تخدم ثورة الارز وتمدها بالرعاية والحيوية والدافعية اللازمة لمواصلة الهجوم على سوريا وهنا يبرز ايضاً دور كل من ميليس ولارسن .
رغم ميل بولتون للإنتقاد والتهكم بشكل عام إلا أنه لم يستطع إخفاء اعجابه الشديد بكل من لارسن وميليس . يبدأ الحديث عن لارسن من خلال اللقاء معه في 17 آب 2005 في نيويورك حين أراد لارسن " أن يستخدم تقرير لجنة التحقيق الدولية المقبل حتى يكون قاسياً جداً مع سوريا , وهذا كان يلائمني بالتأكيد " بحسب قول بولتون . أما حول ميليس فيصفه بولتون " بالمحقق المحترم , قاسي وغير منحاز " ويذكر بولتون أنهما تناولا الفطور معا في صباح اليوم التالي من قيام ميليس بتسليم تقريره الى مجلس الامن حول التحقيقات بتاريخ 20 تشرين اول 2005 حيث شكى ميليس من عدم تعاون سوريا كلياً مع اللجنة وخوفه من عودة سوريا الى لبنان لتنفيذ عمليات انتقامية وسائلاً بولتون إذا ما كان سيعارض اقتراحاته التصحيحية لمجلس الامن , أجاب بولتون بالنفي وسأل ميليس مباشرة إذا كان يعتقد " أن الرئيس السوري بشار الاسد كان متورطاً بإغتيال الحريري , فإبتسم ( أي ميليس ) وأجاب : طبعاُ ".
إذاً وعلى ذمة بولتون , فإن ميليس غير المنحاز "متأكد" وخلال فترة أشهر قليلة من بدء عمله أن الاسد متورط بالاغتيال , فيما الشريف الاخر لارسن يريد تقريراً شديداً من لجنة ميليس حتى يستخدمه بوجه سوريا , إذاً هي مرحلة الثلاثي بولتون – لارسن – ميليس والذين يستحقون الانضمام الى لائحة مضللي التحقيق , فهل من محاسبة ؟! مع الإشارة الى أن بولتون يعتبر أن السبب الرئيسي لإستقالة ميليس كانت الضغوط التي تعرض لها من الامين العام للامم المتحدة كوفي انان الذي كان يسعى دائماً لتخفيف لهجة تقارير ميليس بخصوص سوريا سواء لجهة الاغتيال أو عدم التعاون مع اللجنة .
كما لا يفوت بولتون الفرصة للإشادة بالمحقق برامريتز بناء على لقاء معه بتاريخ 10 شباط 2006 في مكتب رئيس مجلس الأمن الذي كانت تترأسه الولايات المتحدة حينها, والذي كان كافياً لأن يستنتج بولتون أنه " لا يظهر وجود لإختلافات أساسية مع ميليس بخصوص المنطق القائل أن أعلى مستويات الحكومة السورية متورطة في إغتيال الحريري ". وعليه يبدو أن لقاءات رؤوساء لجنة التحقيق المتعاقبين بالدبلوماسيين الاميركيين وإطلاعهم على رأيهم حول الجهة المرتكبة وسير التحقيقات هو سلوك منهجي منتظم وفي هذا السياق كان لقاء بلمار وفيلتمان في اجواء الحديث عن القرار الظني المحتمل للمحكمة وإتهام عناصر من حزب الله .
من الواضح وبمعزل عن كتابات بولتون, الترابط الوثيق بين القرارين 1559 و 1595 , حيث أن القرار الاول يخرج سوريا من لبنان والثاني يسعى لإخراجها من الصراع , إلا أن بولتون يكشف عن إستغرابه من التوتر الفرنسي لأي محاولة ربط بين القرارين رغم انهما بحسب رأيه يعالجان موضوع إستقلال لبنان عن الهيمنة السورية , وهو ما يظهر جهلاً في فهم المقاربة الفرنسية تجاه لبنان وسوريا حيث ان فرنسا كانت مهتمة أكثر بإخراج سوريا من لبنان لما في ذلك من إستعادة لدورها في لبنان ولم تكن تسعى لخوض مواجهة اقليمية مع سوريا .
بالخلاصة يكشف هذا الفصل من كتاب بولتون حاجة الولايات المتحدة الملحة الى حدث كإغتيال الرئيس الحريري وتوظيفه من خلال لجنة التحقيق الدولية كإستكمال للقرار 1559 ليس فقط لإخراج سوريا من لبنان بل أيضاً لخلق قاعدة معادية لسوريا في لبنان والهيمنة عليه وذلك كخطوة أساسية لإعادة التوازن للصراع في المنطقة حين كانت ادارة بوش تتخبط وتستنزف بشكل حرج جداً في العراق تحديداً والمنطقة عموماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق