(نشر المقال في جريدة السفير اللبنانية بتاريخ 9 أيلول 2010)
في خضم السجال المتصاعد عالمياً بشكل عام, وأميركياً وإسرائيلياً بشكل خاص حول نية وقدرة إيران على إمتلاك قدرات نووية عسكرية يدور تساؤل يقلق العالم حول ما إذا ما كانت الولايات المتحدة ستقرر بعد فشل العمل الدبلوماسي والعقوبات إعتماد الخيار العسكري بوجه طهران ؟ إلا أن الإجابة عن هذا التساؤل مرتبطة الى حد كبير بالإجابة عن السؤال التالي , هل يمكن إحتواء إيران نووية ؟ لا ينبغي التقليل من أهمية هذا السؤال , إذ انه في حال قررت إدارة أوباما الأخذ بالخيار العسكري بوجه طهران وبمعزل عن الأسباب الحقيقية لذلك فإنها ستحتاج الى تظهير قرار الحرب للرأي العام الاميركي تحديداُ والعالمي عموماً لا سيما في الشرق الاوسط , عبر ترسيخ مبدأ يشرع ويبرر قرار الحرب وتكاليفها المتوقعة ( كما كرس بوش مبدأ الحروب الإستباقية ), وهذا ما يحاول دعاة الحرب فعله من خلال مقولة أن تقدم إيران كقوة نووية سيحولها الى تهديد إستراتيجي غير قابل للإحتواء والردع مما سيمكنها من بسط نفوذها في الشرق الإوسط وتهديد الأرض الأميركية ومصالحها وكذلك تهديد وجود إسرائيل كدولة من ناحية أخرى.
وقد تزايد بشكل لافت ومنذ إستلام أوباما للحكم التساؤل المرتبط بإمكانية إحتواء إيران ذات قدرات نووية عسكرية , وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال تقارير ودراسات أهم مراكز الابحاث في الولايات المتحدة والتقارير الصحفية وتصريحات صانعي القرار الاميركيين والإسرائيليين على السواء . تكمن أهمية هذا السؤال في إرتباطه مباشرة بقبول الخيار العسكري بوجه طهران أو رفضه , حيث أن القائلين بإمكانية الاحتواء ينطلقون من ذلك لرفض خيار الحرب وإعتباره خيار الضرورة ما دام الاحتواء سيكون أقل كلفة وأكثر فعالية , فيما الرافضون لإمكانية الاحتواء ينادون بضرورة توجيه ضربة عسكرية لإيران وفي أقرب وقت ممكن قبل أن تمتلك إيران قدرات نووية من شأنها أن تجعل الضربة العسكرية حينها أكثر تعقيداُ وكلفةً وأقل مردوداً وذلك إستناداً الى حسابات الخيار العقلاني .
قبل إستعراض حجج كلا الفريقيين من المفيد تبيان مكوناتهما , بالتأكيد فإن في مقدمة رافضي فكرة الإحتواء تحل إسرائيل التي ترفض مطلقا العيش مع إيران نووية لما تشكله من خطر وجودي عليها ومما سيعيد اليهود الى حقبة ما قبل 1948 أي حقبة " العجز عن الدفاع عن النفس " على حد تعبير نتنياهو , وبالإضافة الى إسرائيل , هناك على المستوى الاميركي الجمهوريون واليمين المسيحي الذين يشكلون الكتلة الاساسية المنادية بضرورة إعتماد الخيار العسكري رافضين إمكانية إحتواء ايران على غرار إحتواء الاتحاد السوفياتي في فترة الحرب الباردة وما إنتهت إليه من إتهيار ذلك النظام من الداخل . على الضفة المقابلة يتركز القائلون بإمكانية الإحتواء ضمن صفوف الديمقراطيين وداخل إدارة اوباما بشكل متزايد وهذا مما يؤدي الى قلق إسرائيلي متصاعد يدفع بحكومة نتنياهو الى إعادة تأكيد جهوزيتها وإستعدادها للتصرف ولو بشكل منفرد للحد من قدرات إيران النووية وهذا ما عبرت منذ أيام مقالة للواشنطن بوست تحت عنوان " تحذير نتنياهو " .
ولكن ما هي الحجج التي يستند إليها كلا الطرفين سواء القائلين بإمكانية الإحتواء أو عدمه ؟
يستند القائلون بإمكانية إحتواء إيران نووية الى فرضية أساسية وهي أن النظام الإيراني هو لاعب عقلاني رغم كونه نظام ديني عقائدي, أي أنه يحسب التكاليف والمنافع لخياراته المتنوعة , فالنظام الإيراني ليس مجنوناً أو إنتحارياً وإن كان يميل الى المخاطرة وممارسة سياسة حافة الهاوية ويستشهد هؤلاء بموقف الإمام الخميني فيما يتعلق بقبول قرار وقف إطلاق النار مع العراق عام 1989 رغم إعتباره ذلك الموقف " كتجرع السم " . وعليه يكمل أصحاب هذا الرأي بطرح نموذج إحتواء الإتحاد السوفياتي والقول بإمكانية قيام نظام إحتواء مماثل بوجه إيران والذي يستند الى تحالف أمني إقليمي ( على مثال حلف الناتو ) تشكل فيه الولايات المتحدة مظلة ردع نووية للدول الأعضاء , بالإضافة الى التواجد العسكري الأميركي في منطقة الخليج والذي يكون بمثابة " خيط الفخ " حيث أن أي هجوم إيراني مفترض على دول الخليج يمكن أن يؤدي الى مقتل جنود اميركيين مما سيبرر ويشرع دخول الولايات المتحدة الاميركية المواجهة .
وبالتوازي يتم التركيز على تطوير القدرات التقليدية لدول المنطقة لخلق توازن قوى تقليدي مع إيران يردعها عن الإعتداء على هذه الدول , وذلك من دون الحاجة الى سباق تسلح نووي في المنطقة وهو ما يقلق الولايات المتحدة وإسرائيل بدرجة أكبر, لذا يتم الإكتفاء بالمظلة النووية الأميركية. بالإضافة الى ذلك كله تستمر وبوتيرة متصاعدة الضغوط الإقتصادية والسياسية والإعلامية على النظام الإيراني وتدعم تحركات المعارضة الايرانية الى أن يسقط النظام من الداخل في نهاية المطاف.
إن من شأن هذه الإجراءات أن تجعل من القدرة النووية الإيرانية غير قابلة للإستخدام بل يجعل منها عبءً على إيران ذاتها , كما أن تطوير القدرات العسكرية التقليدية لدول المنطقة مترافقة مع جهود سياسية وإقتصادية لعزل حلفاء طهران وخاصة في حال إنجاز تسوية على المسار الفلسطيني , من شأن هذا كله الحد من نفوذ إيران في المنطقة وإن إمتلكت قدرات نووية . والخلاصة أن اللجوء لخيار الإحتواء إما أن يؤدي إلى تراجع إيران عن برنامجها النووي وإما إنهيار النظام من الداخل وذلك بأدنى كلفة ممكنة بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها وذلك بعكس الخيار العسكري فيما لو تم العمل به.
في المقابل يرفض الفريق الآخر الفرضية القائلة بإمكان إحتواء إيران لأسباب عدة , فالنظام الايراني ليس عقلانياً بسبب الخاصية الدينية والايديولوجية للنظام الايراني وهذا ما يمكن أن يدفعه الى خيارات انتحارية في ما إذا أعتقد النظام أن هكذا أفعال ضرورية لحفظ الاسلام أو أنها من الواجبات الدينية والفروض إلالهية, ويستشهد هؤلاء بمقولات أحمدي نجاد عن إزالة إسرئيل عن الخارطة بالإضافة الى إحدى المقولات " المنسوبة " للإمام الخميني يقول فيها " إننا لا نعبد إيران بل نعبد الله .... فلتحترق هذه الأرض ( أي إيران ) أن كان ذلك سيؤدي لأن ينتشر الإسلام قوياً في العالم" . وعليه فإنه لا يمكن التأكد من إمكان ردع إيران عن إستخدام قدراتها النووية بوجه أعدائها أي أعداء الاسلام , بل وإن امتنعت إيران عن إستخدام السلاح النووي لحسابات عقلانية كما يدعي الطرف الآخر فإنه من الممكن لإيران أن تنقل تلك المواد النووية الى منظمات إرهابية موالية لها لتستخدمها بوجه أعداءها فيما تبقى إيران خلف المسرح .
أما مقولة تغيير النظام فيرفضها هؤلاء لسببين , الأول أن الأحداث الداخلية الأخيرة أثبتت ضعف المعارضة بل إزداد النظام قوةً وقدرةً على مواجهة أي حراك داخلي لا سيما مع تصاعد دور الحرس الثوري في مفاصل النظام والمجتمع الإيراني , وعليه فإنه لا يمكن أن يحدث أي تغيير داخلي في إيران خلال الفترة المتبقية والمقدرة لإمتلاك إيران قدرات نووية . ثانياً , وحتى مع فرض تغيير النظام فإنه لا ضمانات حقيقية أن النظام الجديد سيسلك منهجاً مختلفاً فيما يخص البرنامج النووي بل يمكن أن يزداد تطرفاً نظراُ لما لهذا البرنامج من مكانة في الفكر القومي الإيراني , حتى أن مير حسين موسوي نفسه إنتقد حكومة نجاد لما إعتبره تنازلات في المجال النووي .
كما ينفي هذا الفريق إمكانية إنشاء الولايات المتحدة لحلف أمني إقليمي رادع يرتكز على مظلة ردع نووية وتواجد أميركي دائم في المنطقة , فالحلفاء العرب للولايات المتحدة غير موثوق بهم ولا يمكن الإعتماد عليهم حيث تفتقر هذه الأنظمة للإستقرار السياسي والقوة العسكرية والحجم الديموغرافي بل وتتصاعد فيها حركة الأوصوليات الدينية المعادية للوجود الأميركي في المنطقة وهذا كله لا يماثل حالة حلفاء واشنطن في أوروبا الغربية أبان الحرب الباردة . بالإضافة الى ذلك كله فإن إمتلاك إيران قدرات نووية بالرغم من كل التهديدات الأميركية سيفقد الولايات المتحدة صدقيتها والتي هي أهم عناصر الردع . والخلاصة بحسب هذا الفريق أنه لا بد للولايات المتحدة وإسرائيل من المبادرة وبأقرب وقت ممكن الى تنفيذ عمل عسكري ضد إيران قبل أن تتحول الى قوة نووية ليس بمقدور أحد إحتوائها أو مواجهتها إلا بكلفة باهظة جداً وغير مضمونة النتائج مطلقاً.
إن هذا النقاش والجدال بين كلا الفريقين من المتوقع ان يتصاعد مع مرور الوقت لا سيما كلما ظهر ان إدارة اوباما لا زالت بعيدة عن قرار الحرب. إذ انه بالرغم من تلويح إدارة أوباما بأن كافة الخيارات بما فيها الخيار العسكري لا يزال على الطاولة من ضمن مسار ثلاثي دبلوماسية – عقوبات – إستعدادات عسكرية ذات صدقية , إلا أن الانتقال من الإستعداد للحرب الى الحرب ذاتها ليس أمر تلقائي وحتمي بل له حساباته الخاصة مما يجعل قرار الحرب مؤجلاً في المدى المنظور حتى النصف الثاني من عام 2011 , وهذا ما يؤكده حدث تزويد روسيا مفاعل بوشهر بالوقود النووي وهو ما تم بموافقة اميركية أو على الأقل لم يلق معارضة أميركية لتكون صفقة بوشهر بمثابة نافذة فتحتها الولايات المتحدة لطهران كمخرج للأزمة بعد تشديد العقوبات , أي أن إدارة أوباما لسيت جاهزة لمواجهة طهران وهي لا زالت بعيدة عن إتخاذ قرار الحرب .
وعلى خط مواز ستكثر خلال الفترة القادمة - ورغم التطمينات الاميركية لإسرائيل حول حاجة إيران لوقت أطول لإمتلاك إيران قدرات نووية – التهديدات والتصريحات الإسرائيلية برفض العيش مع إيران نووية وعن نيتها وإستعدادها لعمل عسكري منفرد بوجه طهران إن إقتضى الأمر . هذا التصميم الإسرائيلي إن تيقنت منه إدارة أوباما سيكون محدد أساسي في إتخاذ واشنطن قرار الحرب لضمان فعالية أفضل للعمل العسكري ما دامت الأضرار والتكاليف التي ستدفعها الولايات المتحدة في كلا الحالتين هي ذاتها . وفي هذا الإطار أيضا يبرز محدد أخر لقرار الحرب الأميركي هو ما مدى التقدم الذي سيتحقق على مسار التسوية الفلسطينية – الاسرائيلية , حيث تعتقد إدارة أوباما أن إنجاز التسوية على المسار الفلسطيني سيفقد طهران وحلفاؤها أهم أوراقهم ويجعلهم في موقف ضعيف ومكشوف مما يمكن البناء عليه للقضاء على مجمل التهديدات في المنطقة ومنها إيران, في حين تعتقد إسرائيل بالعكس أي أن شن الحرب على طهران وهزيمتها ستؤدي الى حل كل القضايا العالقة وفي مقدمتها " عملية السلام " وذلك وفقاً لشروطها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق