من أنا

صورتي
باحث وكاتب لبناني في العلاقات الدولية والدراسات السياسية.حائز على إجازتي حقوق وعلوم سياسية من الجامعة اللبنانية ودبلومي قانون عام وعلاقات دولية, وماستر علاقات دولية ودراسات أوروبية.حاصل على منحة تفوق من الجامعة اللبنانية لنيل شهادة الدكتوراه. حالياً يتابع دراسة الدكتوراه في العلاقات الدولية في جامعة براغ الدولية.

الله والإسلام والمهدي.. في سياسة إيران الخارجية


نُشرت هذه المقالة في صحيفة السفير العدد 12019 بتاريخ 22\10\2011 
يواجه اللاعبون السياسيون بشكل عام معضلة حرجة تتمثل في الموازنة بين قيمهم المعلنة ومصالحهم المادية, إلا ان هذه المعضلة تشتد خصوصاً في حالة اللاعبين الإيديولوجيين بل وتتحول الى التحدي الأقسى عند القوى الدينية نتيجة إرتباط قيمها ومُثلها بالمقدس والإلهي, ما يجعل التغاضي عنها أمراً شديد الخطورة بل ومصيرياً. تُعتبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية الأنموذج الأوضح للدولة العقائدية حالياً لا سيما على المستوى الإسلامي, لذا تحوذ هذه الإشكالية قيمة إضافية في حال بحثها من خلال التجربة الإيرانية بإعتبارها دولة إسلامية شيعية ذات عقيدة إنتظارية, بالإضافة لكونها قوة إقليمية ذات تأثيرات دولية عميقة. وعليه, كيف تتصرف الجمهورية الإسلامية في لحظة التناقض بين أهدافها العقائدية ومصالحها المادية؟ إن هذا السؤال كان ولا يزال من أبرز المعضلات التي يواجهها المفكرون والساسة الغربيون أثناء سعيهم لفهم السلوك الإيراني والتنبؤ بخطواته المقبلة, وهو ما دفع كيسينجر للقول: "المسألة الأساسية فيما يخص إيران هي ما إذا كانت إيران ترى نفسها كقضية أو كأمة"

نظرياً,  تتجاهل النظريات التقليدية في العلاقات الدولية – الواقعية, الليبرالية, والماركسية – دور الدين أو تضعه على الهامش بمعنى انها لا تجد له أي تأثير مستقل على سلوك الدولة. لقد عانى هذا الحقل لفترة طويلة من فجوة أساسية تمثلت في إهمال الدين وذلك تأثراً بمنشأه الغربي ذا النزعة العلمانية, بالإضافة الى تضاءل خطر النزاعات الدينية مع بروز الصراع التاريخي بين الماركسيين والليبراليين, ولاحقاً بسبب هيمنة الحرب الباردة على الدراسات الدولية وطغيان دراسات الامن القومي على هذا الحقل المعرفي, والتي لم يكن الدين هاجساً بارزاً فيها. 

لاحقاً وبفعل الصدمات المتتالية منذ إنتصار الثورة الإسلامية في إيران, وإنتهاء الحرب البادرة وتصاعُد الحديث عن "صراع الحضارات" ومن ثم أحداث الحادي عشر من أيلول, تصاعدت وبشكل مثير الكتابات والدراسات النقدية حول ضرورة إعادة الدين من "المنفى" الى حقل العلاقات الدولية. إلا أن محاولات دمج الدين في النظريات التقليدية لا زالت متواضعة كونها لا تزال بعيدة عن تكريس إصالة الدين – ومجمل العناصر الثقافية- بل تركز على دوره كعنصر متدخل في أفضل الأحوال. أما المحاولة الأبرز قد تكون ما قدمته النظرية "البنيوية" التي شاعت منذ بداية التسعينات والتي أدخلت البعد الإجتماعي بشكل أصيل الى العلاقات الدولية. تركز هذه النظرية على فكرة جوهرية مفادها أهمية تأثير البنية القيمية وليس فقط المادية على سلوك اللاعب السياسي, فالمصالح القومية ليست متماثلة – كما يعتقد الواقعيون – بل أن المصالح تتنوع وتتحدد بحسب قيم وهوية اللاعب السياسي, غير ان منظري هذه المدرسة لم يقاربوا بجدية بعد موضوع الدين بشكل مستقل.

أمام هذه الفجوة النظرية كان لا بد من اللجوء الى مقاربات وأطر نظرية قادرة على معالجة أثر الهوية الدينية على السلوك الخارجي للدولة. من حيث المبدأ تتم الإجابة عن سؤال القيم- المصالح في حالة إيران من خلال مقاربتين أساسيتين, المقاربة الواقعية والمقاربة الإنثروبولوجية. يذهب أصحاب المقاربة الواقعية الى الجزم أنه في لحظة التناقض ستقوم إيران حتماً بتفضيل مصالحها القومية على تلك العقائدية, وأن الخطاب العقائدي لا يهدف سوى للتعبئة وتعزيز الشرعية وزيادة النفوذ والـتأثير. وعليه تصبح إيران من ناحية السياسة الخارجية كالسعودية والولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل, أي أن سعيها الحقيقي هي لحفظ وجودها وأمنها ومصالحها الإقتصادية والتفوق والهيمنة.

  في الإتجاه الآخر يذهب أصحاب " المفهوم الإنثروبولوجي" للهوية الدينية الى القول أن الهوية الدينية لها تأثير صافي ومطلق ومستقل على سلوك اللاعب السياسي, وبناء عليه يطلق هؤلاء على إيران صفة " الدولة المجنونة" أو "الدولة الشهيدة" التي تحركها عقيدة آخروية إنتظارية لا تقيم وزناً للحسابات العقلانية بل يحركها الواجب الإلهي مهما كانت التكلفة. تُستعمل هذه المقاربة من قبل الإسرائيليين واليمين الأميركي للترويج لمقولة عدم إمكانية إحتواء إيران بما لا يدع مجالاً سوى للعمل العسكري, ويركز هؤلاء غالباً على الخطاب الرسمي لقادة الجمهورية الإسلامية كتلك الصادرة عن أحمدي نجاد. إلا أن هذه المقاربة سياسية بإمتياز وتفتقد للأدلة النظرية والعملية الجدية, وهي إنتقائية بشكل فاضح بتركيزها على بعض المواقف والتصريحات الإيرانية, وعلى كل حال كما يقول راي تقية "إن إيران دولة خطابها دائماً أسوأ من سلوكها". يضاف الى ذلك, أن إيران تجد نفسها في حالة "لعبة الدجاجة" (بمعنى لعبة الجبان) مع الولايات المتحدة ولذا تحاول في لحظات محددة الإيحاء بنوايا جنونية وممارسة سياسة حافة الهاوية لإجبار الأميركي على التراجع, إلا ان ذلك يعود لأسباب تكتيكية وليس عقائدية.

نتيجة المحدودية العملية لهاتين المقاربتين كان لا بد من مقاربة اكثر جدية, وهي في حالة إيران يمكن ان تكون مقاربة "التفسير السياسي" للهوية الدينية والتي تستند على ان سلوك دولة كإيران انما يكون نتيجة العلاقة التفاعلية بين الهوية الدينية والمصالح المادية. بحسب هذه المقاربة يصبح الدين – والثقافة بشكل عام – عنصر أساسي ضمن جملة عناصر في تحديد سلوك الدول, ولذا فإن تأثير الهوية الدينية لا يمكن فهمه بشكل كامل من دون فهم علاقته التفاعلية مع جملة العوامل الإجتماعية, السياسية والإقتصادية. والأهم إن الوزن النسبي للمحددات الدينية والمادية تجاه بعضها البعض ليس ثابتاً بل خاضع للتطور تبعاً للزمان والمحتوى الداخلي والدولي الذي تتحرك ضمنه. وفي هذا السياق صرح الشيخ رفسنجاني عام 2003 أن الوزن النسبي للإسلام والمصالح القومية اثناء صناعة قرارات السياسة الخارجية يعتمد على ظروف كل قضية بذاتها في تلك اللحظة الزمنية المعينة.

إذاً رغم الطابع العقائدي للجمهورية الإسلامية إلا أنها تقوم بحسابات إستراتيجية بخصوص العوامل المادية كالإقتصاد, توازن القوى, والأمن القومي. إن النظام الإيراني مدرك بشدة لضرورة حفظ أهدافه الإسلامية الثورية لكن من دون تجاهل الشروط المادية, إذ أن حفظ مصلحة الإسلام – المصلحة الأسمى-  لا يمكن أن تتحصل من دون حفظ الجمهورية الإسلامية. لذلك تدرك القيادة الإيرانية أن بعض أهدافها العقائدية المعلنة لا يمكن حفظها في لحظة معينة نتيجة المحدودية في الموارد والقوة, مما يحتم عليها القيام بعملية تصنيف لهذه الإهداف ضمن سُلم اولويات حيث يتم توجيه الموارد المحدودة تجاه الأهداف الأولى فالأولى. إن عملية تصنيف الأهداف هذه تتم وفق المعايير التالية: قدسيتها التي تنعكس في الخطاب الرسمي وأثرها على شرعية النظام داخلياً, شيعياً وإسلامياً, مدى إرتباط هذه الأهداف بالمهدوية, وأخيراً مدى إلتصاقها بالمصلحة القومية.

يبقى من المهم تحديد الحالات التي قد يختار فيها النظام الإيراني تجاوز المصلحة القومية في سبيل إهدافه ومُثله الإسلامية في لحظة التناقض الحاد بينهما, وقبل ذلك لا بد من الإشارة الى جملة مقدمات ضرورية:
 أولاً في الثقافة الإستراتجية للجمهورية الإسلامية والتي تتشكل بفعل عوامل الجيوبولتيك, التاريخ, القومية والوعي والتجربة الشيعية. تتأسس هذه الثقافة على مشاعر متناقضة من الكبرياء والتميز والشعور بالمظلومية أنتجت حساسية مفرطة تجاه مفاهيم الإستقلال والعدالة والإكتفاء الذاتي  ورفض الهيمنة, مع قابلية عالية للتضحية وتقبل التكاليف والتعلق بقيمة الإستشهاد, والأخذ بالحسبان مفهوم المدد الإلهي والقوة الغيبية بالشكل الذي يخالف نظرية الغربيين حول "الخيار العقلاني" بإحتساب التكاليف والمكاسب. 

ثانياً, المهدوية بمعنى الإنتظار البنَاء والإيجابي كما عبر عنه الإمام الخميني والشهيد مطهري, والذي يلزم المنتظرين بالإستعداد الروحي, الأخلاقي والعملي ومجاهدة الطواغيت بحسب قول الإمام الخامنئي. إلا أنه بملاحظة المنهج الذي أرسته المدرسة الخمينية للإنتظار كالإبتعاد عن التفسيرات الضيقة وتجنب الإسقاطات القطعية للروايات المهدوية على أحداث محددة, يظهر ان المهدوية ذات تأثير متدخل وليس مستقل على السياسة الخارجية الإيرانية.

ثالثاً, يملك الولي الفقيه القرار النهائي في صنع السياسة الخارجية وذلك بمقتضى سلطته الدينية والنصوص الدستورية وحضوره في مؤسسات السياسة الخارجية – مباشرة أو عبر ممثلين له. يضاف الى ذلك, حال التوازن والتداخل بين الإجهزة المختلفة التي تمنع إحداها من التسلط على صناعة القرار وهو ما يعزز سلطة الولي الفقيه على السياسة الخارجية. من حيث المبدأ يكتفي الولي الفقيه بتحديد الإطار العام للسياسة الخارجية إلا أنه في حال وجد إنحرافات خطيرة فإنه لا يتردد في الدخول في التفاصيل, وكذلك في حال وجود قضية أو ملف حساس( على مثال الملف النووي). لا يعني كل ذلك أنه سلطته مطلقة من الناحية العملية إذ يبقى لرئيس الجمهورية أدوار أساسية وكذلك الأجهزة التي تردف الولي الفقيه بالمعلومات والتقويمات إلا أن القصد أن المرشد يستطيع أن يمسك السياسة الخارجية "من قرنيها" إن صح التعبير,  والأهم هو أنه المرجعية المعنية بحل التناقض بين المصلحة القومية والإهداف العقائدية لحظة وقوعه.

في هذا السياق لا بد من الإشارة الى مفهومي "المصلحة" و "الضرورة" كمبدأين أساسيين في الفقه السياسي يمكن للولي الفقيه اللجوء إليهما في لحظة محددة لحفظ المصلحة القومية للجمهورية الإسلامية بإعتبارها ضرورة جوهرية لحفظ الإسلام. إن مبدأ التزاحم هذا يفيد أنه" إذا توقف واجب أهم على مقدمة محرمة فلا بد من الحفاظ على ذلك الواجب الأهم, وفي سبيل حرمة المقدمة لا يجوز تبرير ترك الواجب الأهم", على قول السيد محمد باقر الصدر, وهو ما يتيح هوامش معتبرة من الواقعية السياسية. إلا انه ينبغي التمييز بين هذه المبادىء والبراغماتية الميكافيللية إذ أن هذه المبادىء يتم تفسيرها بشكل ضيق وتطبق في لحظات التناقض الحاد وفي ظل سلطة الولي الفقيه, ثم أنه لا بد من وجود تناسب بين "نُبل" الغاية و"حرمة" الوسيلة. ثانياً, كما يقول السيد محمد حسين فضل الله إن ميكافيللي كان يقصد مصلحة خاصة فيما مبدأ التزاحم يقوم على حفظ مصلحة عامة شريفة ضرورية ولذا " فالغاية تنظف الوسيلة". من أبرز الأمثلة العملية على إختلاف واقعية الفقه السياسي عن الميكافيللية "المنفلتة" هي تجربة الإمام الحسين في واقعة كربلاء والتي إستشهد فيها الإمام وأبناؤه وأصحابه في سبيل المصلحة العامة للإسلام والمسلسمين وهي تجربة تعجز الميكافللية عن تقديم أدنى تفسير لها. (ملاحظة: هذه الفقرة لم ترد في نص المقالة بل في النص الأصلي".

من هذه النقطة يمكن القول أن إيران يمكن أن تُقدم مصالحها وأهدافها العقائدية على مصالحها القومية في لحظة تناقضهما الشديد في الحالات التالية:
-        عندما يكون الهدف العقائدي ذا قيمة قدسية عالية ويرتبط مباشرة بالشرعية الدينية للنظام, ولا سيما متى حضر البعد المهدوي كعامل متدخل لتحفيز هذا الهدف, والمثال الأوضح لهذه الحالة هو الموقف من الكيان الصهوني.
-        عندما يحمل الولي الفقيه – بإعتباره صاحب القرار الفعلي-  فهماً دينياً ورؤيةً عقائديةً ترفض المساومة وتميل للسياسات الثورية, لا سيما متى شاركه في ذلك رئيس الجمهورية.
-        في لحظات التوتر الداخلية الحادة التي تهدد الشرعية الداخلية للنظام الإسلامي, قد يلجأ النظام الى سياسات متشددة تجاه القضايا ذات البعد الديني بهدف تعويض النقص الحاصل في شرعيته الشعبية بتلك الدينية.
-        في الحالة الأخيرة, هي عندما يخطأ أو يستهين النظام في تقدير التكاليف الحقيقية للسياسات ذات الحافز الديني.
في الخلاصة, تطورت تجربة إيران مع الوقت في الموازنة بين القيم والمصالح, ونجحت غالباً في خلق توازن دقيق بين مُثلها الدينية والواقعية السياسية كما بين مصالحها القومية والإسلامية من خلال الأخذ بعين الإعتبار القيود التي يفرضها توازن القوى الدولي والإقليمي مع الحفاظ على هويتها ومبادئها, ولذلك يستنتج كل من مجيدي وديهشيري في دراستهما " سياسة إيران الخارجية في ما بعد الثورة: مقاربة كلية" أن إيران أصبحت نموذجاً يمكن إتباعه على الساحة الدولية. إن هذه القراءة لحضور الدين والواقعية في السياسة الخارجية الإيرانية وحدود كل منهما يمكن أن تشكل قاعدة صالحة لفهم وتفسير السياسات الإيرانية على مثال دعمها للمقاومة, موقفها من الولايات المتحدة, وحالياً مواقفها تجاه "الربيع العربي". بالمحصلة يصح توصيف إيران على انها لاعب "عقائدي إستراتيجي".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق