من أنا

صورتي
باحث وكاتب لبناني في العلاقات الدولية والدراسات السياسية.حائز على إجازتي حقوق وعلوم سياسية من الجامعة اللبنانية ودبلومي قانون عام وعلاقات دولية, وماستر علاقات دولية ودراسات أوروبية.حاصل على منحة تفوق من الجامعة اللبنانية لنيل شهادة الدكتوراه. حالياً يتابع دراسة الدكتوراه في العلاقات الدولية في جامعة براغ الدولية.

ما بعد استقالة ميقاتي

نُشرت هذه المقالة على موقع الإنتقاد الإلكتروني بتاريخ 28-11-2011
حسام مطر
كان تهديد الرئيس ميقاتي بالإستقالة مؤشراً على أننا خرجنا من النفق ولكن لندخل في نفق جديد أضيق وأشد ظلمة من النفق السابق, وعليه أصبح هامش المناورة السياسية أضيق والقدرة على التوقع أصعب والإعتماد على الحسابات العقلية شبه مستحيل. المحكمة الدولية بدلالاتها وغاياتها الحقيقية ليست موضوعاً تفصيلياً, بل أصل الموضوع، ولذا كان من الصعب جداً تدوير الزوايا حولها مهما كانت براعة الوسطاء وبراغماتيتهم, إذ ليس النقاش حول كيفية التمويل وإلا لكان من السهل قوننة ألف مخرج ومخرج. إذاً لن تموّل المحكمة وسيستقيل رئيس الحكومة وإن تأخر قراره أسابيع قليلة بذرائع مختلفة على مثال عدم إنعقاد جلسة مجلس الوزراء لفقدان النصاب. فالوسطية التي تحصن بها دولته طويلاً تصلح لمرحلة يكون فيها الإنقسام قابلاً للتسوية, اما الآن فإنها مرحلة الأبيض والأسود فقط على ما يبدو, لذا لا مناص للوسطيين الآن إلا أعلى التل.
بعكس ما يعتقد كثيرون, فإن ميقاتي يدرك بحسه التجاري أنه بين البقاء رئيساً للحكومة في ظل الظروف الداخلية والخارجية الحالية وبين الإستقالة, فإنه من شبه المؤكد أن المكسب هو في الإستقالة. وقبل التأكيد على هذه المكاسب لا بد من التذكير بأن الرئيس ميقاتي في النهاية هو نموذج لرجل الأعمال التقليدي "الليبرالي" الذي يعتنق المبادئ طالما أنها لا تستنزف رأس ماله, فرجال الأعمال لا يهوون المعارك المبدئية بل يصارعون لأجل المصالح والمكاسب وإن ألبسوها شعارات وخطباً تستهوي الحشود, ولذا قيل "رأس المال جبان". فالرئيس ميقاتي بالتأكيد ليس سعد الحريري ولكنه بالتأكيد لا يستطيع مخاصمة السعودية والولايات المتحدة وبدرجة أقل بالنسبة لسوريا. ولذلك سيتحلل الرئيس ميقاتي عبر الإستقالة من السير على حد السيف في الكباش الإقليمي بشأن الأزمة السورية وتمويل المحكمة, سيفلت من سندان عون الإصلاحي ومطرقة "السلطويين", والأهم أنه في كل هذه الملفات يتعرض ميقاتي لحالة إستنزاف في شعبيته السنية ولذلك يستشعر أن هذه الأوضاع, وليس حنكة خصمه الحريري, تقضم من شعبيته وتلك التي كان يأمل بها.
يستطيع ميقاتي أن يبيع إستقالته للجميع تقريبا, سيُخبر السوريين وحلفاءهم أنه فعل ذلك هرباً من الضغط الخليجي لإلحاق لبنان بموقفهم, سيحدّث السعوديين انه حرم سوريا من حكومة حليفة لدمشق غير قادرة على دعم الموقف العربي الرسمي, ستبث دعايته أنه وقف الى جانب النبض السني وحافظ على إستقلالية الموقع السني الأول, دولياً سيبدو كمن إنتصر لتلك "الشرعية", وداخلياً سيفرح به الوسطيون لا سيما جنبلاط. في المقابل يعرف ميقاتي أنه على الأرجح سيبقى رئيس حكومة تصريف أعمال الى ما شاء الله، وأن خصومه في تيار المستقبل لن تكون لهم الحكومة المقبلة وبالتالي لن يستغلوها في مواجهته في الإنتخابات النيابية المقبلة. وعليه في قبالة هذه المكاسب ستبدو أي من الخسائر بالنسبة لميقاتي هامشية وقابلة للإحتواء.
ما بعد الإستقالة, وفي أفضل الأحوال سنعود الى سيناريو مكرر, رئيسي حكومة وحكومة تصريف أعمال, أي الرئيس المكلف ورئيس تصريف الأعمال وحكومته, إذ أنه قبل الأحداث في سوريا وحين كانت بعض خطوط الإتصال الإقليمي تعمل لم ننجح بتشكيل حكومة إلا بعد شهور, فكيف الآن؟!!. إن لبنان يفقد مزيداً من صمامات الأمان الداخلية والخارجية وهو ما يعني مزيدا من الفوضى, إحتمالات متصاعدة لإستخدام العنف المتبادل, عنف مذهبي بالدرجة الأولى, الحدود اللبنانية السورية أكثر إنفلاتاً, ومزيد من تفكك ما تبقى من الدولة لا سيما على المستوى الأمني والعسكري, وربما النيابي أيضاً.
لطالما كان إستقرارنا مرتبطاً عضوياً بإرادة الأطراف الخارجية وبعض التوازنات الداخلية, إلا أننا اليوم أمام لحظة يرى فيها المعادون لسوريا أن الإضطرابات اللبنانية لا سيما في الشمال ستحرم النظام السوري من خاصرة صلبة حيوية لبقائه, وإن كان هؤلاء المقامرون قد جازفوا بأنفسهم عبر المشاركة في الحرب على سوريا فهل سيقلقون على سلامة اللبنانيين ودمائهم. وعلى المستوى الداخلي يبدو واضحاً أن تيار المستقبل وحلفاءه يحركهم الغرور والتسرع معتقدين أن الفرصة مؤاتية للعبث بميزان القوى الداخلي, وهو ما يشكل مقامرة خطيرة حتى انه بالمقارنة معها ستبدو قرارت حكومة السنيورة في 5 أيار مجرد هفوة.
ليس من المبالغة القول ان لبنان يعيش أكثر مراحله خطورة, ولن تكون إستقالة الرئيس ميقاتي إلا نزعاً لصمام امان آخر، وسيتحمل مسؤوليتها السياسية والوطنية, وأما اللاهثون وراء إسقاط الدولة لحسابات خليجية وغربية لمواجهة دمشق فإنهم كمن يمارس لعبة "الروليت الروسية" ولكن بالمقلوب, أي كل حُجرات المسدس ملقمة ما عدا واحدة.
28-11-2011

اميركا والصين: حرب تحت الرماد

نشرت هذه المقالة على موقع الإنتقاد الإلكتروني بتاريخ 21\11\2011

يشعر الأميركيون أن الصين أخذتهم على حين غرة, بعد أن تركتهم يتوهون في أزقة الأزمات الدولية وأعباءها وتكاليفها وتعقيداتها مدفوعين بغطرسة واهمة وأنانية مفرطة, في حين كان الصينيون يجمعون الليل والنهار بالعمل الكاد والهادىء معاندين شهوة إبراز الذات وعرض القوة مفضلين الإبتعاد عن المسؤوليات الدولية والتركيز على بناء قوة وطنية وإقليمية لم يسبق لها مثيل.  إستفاق الأميركيون أخيراً بفعل الأزمة الإقتصادية , فأدركوا أنهم تجاوزوا ذروتهم بما يحتم عليهم التقشف وحصر الأولويات بهدف ملاقاة الصين قبل فوات الأوان, ولذلك قرروا الإنسحاب من الإلتزامات الدولية قدر المستطاع لتركيز جهدهم في الباسيفيك, وأبلغوا حلفاءهم بأن زمن "الراكب المجاني" قد ولى (راجع: حسام مطر, الصراع الدولي: من الشرق الوسط الى الباسيفيك, جريدة الأخبار,  15 تشرين أول 2011). إستشعر الأوروبيون عوارض اليُتم , وأما الحلفاء العرب فتاهوا في دوامة من الخوف والقلق والضياع ولم يجدوا سوى حبل خلاص وحيد "سوريا", علَهم بذلك يصلحون ميزان القوى الذي إختل لصالح إيران وحلفائها بعد 8 سنوات من الكباش الإقليمي الدامي.

يسيطر الهاجس الصيني على مراكز الدراسات الأميركية وصانعي القرار, إذ أنه رغم الإجماع العارم على ما تمثله الصين من تحدي لدور الولايات المتحدة في قيادة العالم, إلا أن النقاش المحتدم يدور حول سبل مواجهة هذا التحدي وتداعياته. يميل فريق من الأميركيين الى الرأي القائل بإمكان التعاون مع الصين عبر إدماجها بالنظام الدولي والإعتراف بموقعها ومصالحها فيه مقابل إشراكها في المسؤوليات والأعباء الدولية ويحذر هؤلاء من معاملة الصين كعدو لأن ذلك سيجعل منها عدوا ً بشكل قطعي. فقد صرح كيسينجر بأن علاقة تعاونية بين الصين وأميركا من شأنها منع التصادم بينهما, حيث "الهاجس الأميركي هو في منع دولة واحدة من السيطرة على آسيا", رافضاً مقولة "الصعود الصيني" إذ ان الصين كانت القوة الأبرز في العالم على مدى 18 قرن من أصل 20, واليوم تعود الصين الى هذا الموقع التاريخي لا غير”.

في المقابل يدعو إتجاه آخر ـ وهو الأكثر حضوراً ـ  الى ممارسة سياسة إحتواء واضحة تجاه الصعود الصيني وذلك من خلال تعزيز الحضور العسكري الأميركي في منطقة الباسيفيكـ شرق آسيا, تمتين التعاون الإستراتيجي مع دول المنطقة لا سيما كوريا الجنوبية, اليابان, تايوان أستراليا والهند, ممارسة ضغوط سياسية على الصين لمراجعة سياستها النقدية والإقتصادية, إشاعة الخوف والقلق تجاه الصين في المنطقة, والسعي لمواجهة تمدد النفوذ الصيني في الشرق الأوسط, أميركا اللاتينية وأفريقيا.
وبناء عليه, يبدو أن إدارة أوباما  تتأرجح بين الخيارين, إلا أنها تميل أكثر نحو الإتجاه الثاني وإن كانت تصرح بالعكس كما قال أوباما هذا الأسبوع بأن واشنطن لا تخشى الصين ومستعدة للتعاون معها. ويبرز هذا التأرجح من خلال محاولة التقرب من الصين عبر تكثيف الزيارات العالية المستوى لا سيما في المجال العسكري, الحرص الأميركي على إبقاء الخطاب الرسمي متزناً وسلمياً ومفعماً بعبارات الثقة والتعاون ومحاولة حل جملة أزمات من خلال الحوار المتبادل كما في شأن قضية تايوان وقيمة العملة الصينية. إلا أنه بالمقابل لا تتوانى واشنطن عن القيام بخطوات إحتوائية إذ قررت مؤخراً زيادة الوجود العسكري في أوستراليا, وأكدت على إلتزامها بأمن وإستقلال تايوان. والأهم هو الحملة الأميركية الدبلوماسية تجاه دول المنطقة  والتي شهدت الكم الأكبر من الزيارات العالية المستوى لمسوؤليين أميركيين لا سيما لأوباما ووزيرة خارجيته كلينتون. وتركز واشنطن بشكل خاص على صياغة شراكة إستراتيجية مع الهند التي باعها اوباما وعداً بضمها لمجلس الأمن كعضو دائم, قبل أن يستطرد قائلا إن "صلاحيات اكبر تعني مسؤوليات اكبر".

أما الصين فلا زالت تشدد على مبدأ "الصعود السلمي" لمواجهة محاولات الإحتواء والشيطنة الأميركية, لذا أصدرت الصين موخراً الورقة البيضاء المسماة " النمو السلمي الصيني" شددت فيها على الطابع الدفاعي للسياسة العسكرية الصينية. وقد حددت الورقة المسار, الآهداف, والسياسة الخارجية للنمو السلمي  للصين وماذا يعني هذا النمو على مستوى العالم. وقد تضمنت الوثيقة جملة ثوابت:
ـ "إن الهدف الأساسي من تحديث القوات العسكرية الصينية هو حماية سيادة  وامن ووحدة الصين ومصالحها في التنمية القومية".
ـ "إن الإنفاق العسكري الصيني ملائم ومعتدل وأن الصين لن تدخل في سباق تسلح مع أي دولة اخرى, وكذلك لا تضمر أي تهديدعسكري لدولة اخرى". 
ـ التنمية السلمية هي خيار إستراتيجي إتخذته الصين لتبح أكثر قوةً, حداثةً وإزدهاراً, ولتقديم مساهمات أكبر لتقدم الحضارة الإنسانية. واكدت الورقة على سياسة بكين في حل النزاعات سلمياً وتشجيع التعاون الإقليمي والدولي ومواجهة الإرهاب بكل أشكاله.
ـ "إن الصعود السلمي للصين يقدم نموذجاً جديداً مختلف عن النماذج التقليدية للقوى الصاعدة التي كانت تسعى للهيمنة. أما الصين فلا تسعى للهيمنة الإقليمية أو مجالاً حيوياً, ولا تريد إستثناء أي دولة من التعاون الإقليمي. إن الإزدهار والنمو الصيني والإستقرار البعيد الأمد يقدم فرصأ للدول المجاورة وليس تهديداً لها".
وقد علق السفير الصيني السابق لدى واشنطن على الوثيقة بالقول أنها تصدر في لحظة تغييرات جوهرية في الوضع الدولي, وتظهر للعالم صدقية الصين وإرادتها القوية, وكذلك توضح الورقة الشكوك لأولئك المتسائلين حول النوايا الإستراتيجية للصين. لقد حددت الوثيقة بشكل واضح المصالح القومية للصين لا سيما تلك الجوهرية التي لا تحتمل المساومة.  فيما أشار محللون صينييون آخرون الى أن لنشر الوثيقة أهداف داخلية تتمثل في توحيد الفهم الوطني للسياسة الخارجية لا سيما بالنسبة لاولئك المطالبين بأن تصبح الصين أكثر عدوانية على الساحة الدولية.
إلا أن المقلق والخطير هو صعود المتطرفين في كلا البلدين, لا سيما على صعيد اليمين الأميركي الذي يقارب العلاقة مع الصين بإعتبارها حالة حرب, كما يبدو من لهجة جون بولتون. وقد صرح المرشح الجمهوري المحتمل للمنافسة في الانتخابات الرئاسية الاميركية ميت رومني بإن الصين تشكل تهديداً إقتصادياً وثقافياً للولايات المتحدة, مما إستدعى رداً من المتحدث بإسم وزارة الخارجية الصينية الى ضرورة ان يتخلى الساسة الأميركيون عن ذهنية الحرب الباردة واللعبة الصفرية حيث ان العلاقات الثنائية بين البلدين امر موضوعي وعقلاني وينعكس مكاسب للطرفين ويعزز قديتهما على مواجهة التحديات والتشارك بالمسؤوليات. وقد حذر فريد زكريا مؤخراً من هذا التطرف الخطابي تجاه الصين في الحملة الإنتخابية للجمهوريين لا سيما وانه يأتي لإرضاء الناخبين بعدما تبين أن أغلبية الأميركيين ينظرون للصين كخصم "وسارق للوظائف" وسبباً مباشراً لأزمتهم الإقتصادية.

ففي إستطلاع أجري مؤخراً قام به "صندوق مارشال الألماني التابع للولايات المتحدة"  تبين أن 63% من الأميركيين (مقابل 46% من الأوروبيين) يعتبرون ان الصين تشكل تهديدا للامن الإقتصادي للولايات المتحدة, في مقابل 31% منهم (مقابل 41% من الأوروبيين) إعتبروها فرصة إقتصادية. في حين أن 47% من الأميركيين ( مقابل 30% من الأوروبيين) ينظروا الى الصين كتهديد عسكري, في مقابل 49% من الأميركيين يرفضون ذلك ( مقابل 62% من الأوروبيين).
كل ذلك يؤكد أن حرب قائمة بين القوتين إلا أنها لا زالت بدون "رصاص", إلا أن تساؤلاً كبيراً يهيمن على عقول كثيريين: الى متى سيبقى "الرصاص" غائباً؟!!

حسام مطر

أميركا والصين: حرب تحت الرماد


نشرت هذه المقالة على موقع الإنتقاد الإلكتروني بتاريخ 21\11\2011


يشعر الأميركيون أن الصين أخذتهم على حين غرة, بعد أن تركتهم يتوهون في أزقة الأزمات الدولية وأعباءها وتكاليفها وتعقيداتها مدفوعين بغطرسة واهمة وأنانية مفرطة, في حين كان الصينيون يجمعون الليل والنهار بالعمل الكاد والهادىء معاندين شهوة إبراز الذات وعرض القوة مفضلين الإبتعاد عن المسؤوليات الدولية والتركيز على بناء قوة وطنية وإقليمية لم يسبق لها مثيل.  إستفاق الأميركيون أخيراً بفعل الأزمة الإقتصادية , فأدركوا أنهم تجاوزوا ذروتهم بما يحتم عليهم التقشف وحصر الأولويات بهدف ملاقاة الصين قبل فوات الأوان, ولذلك قرروا الإنسحاب من الإلتزامات الدولية قدر المستطاع لتركيز جهدهم في الباسيفيك, وأبلغوا حلفاءهم بأن زمن "الراكب المجاني" قد ولى (راجع: حسام مطر, الصراع الدولي: من الشرق الوسط الى الباسيفيك, جريدة الأخبار,  15 تشرين أول 2011). إستشعر الأوروبيون عوارض اليُتم , وأما الحلفاء العرب فتاهوا في دوامة من الخوف والقلق والضياع ولم يجدوا سوى حبل خلاص وحيد "سوريا", علَهم بذلك يصلحون ميزان القوى الذي إختل لصالح إيران وحلفائها بعد 8 سنوات من الكباش الإقليمي الدامي.

يسيطر الهاجس الصيني على مراكز الدراسات الأميركية وصانعي القرار, إذ أنه رغم الإجماع العارم على ما تمثله الصين من تحدي لدور الولايات المتحدة في قيادة العالم, إلا أن النقاش المحتدم يدور حول سبل مواجهة هذا التحدي وتداعياته. يميل فريق من الأميركيين الى الرأي القائل بإمكان التعاون مع الصين عبر إدماجها بالنظام الدولي والإعتراف بموقعها ومصالحها فيه مقابل إشراكها في المسؤوليات والأعباء الدولية ويحذر هؤلاء من معاملة الصين كعدو لأن ذلك سيجعل منها عدوا ً بشكل قطعي. فقد صرح كيسينجر بأن علاقة تعاونية بين الصين وأميركا من شأنها منع التصادم بينهما, حيث "الهاجس الأميركي هو في منع دولة واحدة من السيطرة على آسيا", رافضاً مقولة "الصعود الصيني" إذ ان الصين كانت القوة الأبرز في العالم على مدى 18 قرن من أصل 20, واليوم تعود الصين الى هذا الموقع التاريخي لا غير”.

في المقابل يدعو إتجاه آخر ـ وهو الأكثر حضوراً ـ  الى ممارسة سياسة إحتواء واضحة تجاه الصعود الصيني وذلك من خلال تعزيز الحضور العسكري الأميركي في منطقة الباسيفيكـ شرق آسيا, تمتين التعاون الإستراتيجي مع دول المنطقة لا سيما كوريا الجنوبية, اليابان, تايوان أستراليا والهند, ممارسة ضغوط سياسية على الصين لمراجعة سياستها النقدية والإقتصادية, إشاعة الخوف والقلق تجاه الصين في المنطقة, والسعي لمواجهة تمدد النفوذ الصيني في الشرق الأوسط, أميركا اللاتينية وأفريقيا.
وبناء عليه, يبدو أن إدارة أوباما  تتأرجح بين الخيارين, إلا أنها تميل أكثر نحو الإتجاه الثاني وإن كانت تصرح بالعكس كما قال أوباما هذا الأسبوع بأن واشنطن لا تخشى الصين ومستعدة للتعاون معها. ويبرز هذا التأرجح من خلال محاولة التقرب من الصين عبر تكثيف الزيارات العالية المستوى لا سيما في المجال العسكري, الحرص الأميركي على إبقاء الخطاب الرسمي متزناً وسلمياً ومفعماً بعبارات الثقة والتعاون ومحاولة حل جملة أزمات من خلال الحوار المتبادل كما في شأن قضية تايوان وقيمة العملة الصينية. إلا أنه بالمقابل لا تتوانى واشنطن عن القيام بخطوات إحتوائية إذ قررت مؤخراً زيادة الوجود العسكري في أوستراليا, وأكدت على إلتزامها بأمن وإستقلال تايوان. والأهم هو الحملة الأميركية الدبلوماسية تجاه دول المنطقة  والتي شهدت الكم الأكبر من الزيارات العالية المستوى لمسوؤليين أميركيين لا سيما لأوباما ووزيرة خارجيته كلينتون. وتركز واشنطن بشكل خاص على صياغة شراكة إستراتيجية مع الهند التي باعها اوباما وعداً بضمها لمجلس الأمن كعضو دائم, قبل أن يستطرد قائلا إن "صلاحيات اكبر تعني مسؤوليات اكبر".

أما الصين فلا زالت تشدد على مبدأ "الصعود السلمي" لمواجهة محاولات الإحتواء والشيطنة الأميركية, لذا أصدرت الصين موخراً الورقة البيضاء المسماة " النمو السلمي الصيني" شددت فيها على الطابع الدفاعي للسياسة العسكرية الصينية. وقد حددت الورقة المسار, الآهداف, والسياسة الخارجية للنمو السلمي  للصين وماذا يعني هذا النمو على مستوى العالم. وقد تضمنت الوثيقة جملة ثوابت:
ـ "إن الهدف الأساسي من تحديث القوات العسكرية الصينية هو حماية سيادة  وامن ووحدة الصين ومصالحها في التنمية القومية".
ـ "إن الإنفاق العسكري الصيني ملائم ومعتدل وأن الصين لن تدخل في سباق تسلح مع أي دولة اخرى, وكذلك لا تضمر أي تهديدعسكري لدولة اخرى". 
ـ التنمية السلمية هي خيار إستراتيجي إتخذته الصين لتبح أكثر قوةً, حداثةً وإزدهاراً, ولتقديم مساهمات أكبر لتقدم الحضارة الإنسانية. واكدت الورقة على سياسة بكين في حل النزاعات سلمياً وتشجيع التعاون الإقليمي والدولي ومواجهة الإرهاب بكل أشكاله.
ـ "إن الصعود السلمي للصين يقدم نموذجاً جديداً مختلف عن النماذج التقليدية للقوى الصاعدة التي كانت تسعى للهيمنة. أما الصين فلا تسعى للهيمنة الإقليمية أو مجالاً حيوياً, ولا تريد إستثناء أي دولة من التعاون الإقليمي. إن الإزدهار والنمو الصيني والإستقرار البعيد الأمد يقدم فرصأ للدول المجاورة وليس تهديداً لها".
وقد علق السفير الصيني السابق لدى واشنطن على الوثيقة بالقول أنها تصدر في لحظة تغييرات جوهرية في الوضع الدولي, وتظهر للعالم صدقية الصين وإرادتها القوية, وكذلك توضح الورقة الشكوك لأولئك المتسائلين حول النوايا الإستراتيجية للصين. لقد حددت الوثيقة بشكل واضح المصالح القومية للصين لا سيما تلك الجوهرية التي لا تحتمل المساومة.  فيما أشار محللون صينييون آخرون الى أن لنشر الوثيقة أهداف داخلية تتمثل في توحيد الفهم الوطني للسياسة الخارجية لا سيما بالنسبة لاولئك المطالبين بأن تصبح الصين أكثر عدوانية على الساحة الدولية.
إلا أن المقلق والخطير هو صعود المتطرفين في كلا البلدين, لا سيما على صعيد اليمين الأميركي الذي يقارب العلاقة مع الصين بإعتبارها حالة حرب, كما يبدو من لهجة جون بولتون. وقد صرح المرشح الجمهوري المحتمل للمنافسة في الانتخابات الرئاسية الاميركية ميت رومني بإن الصين تشكل تهديداً إقتصادياً وثقافياً للولايات المتحدة, مما إستدعى رداً من المتحدث بإسم وزارة الخارجية الصينية الى ضرورة ان يتخلى الساسة الأميركيون عن ذهنية الحرب الباردة واللعبة الصفرية حيث ان العلاقات الثنائية بين البلدين امر موضوعي وعقلاني وينعكس مكاسب للطرفين ويعزز قديتهما على مواجهة التحديات والتشارك بالمسؤوليات. وقد حذر فريد زكريا مؤخراً من هذا التطرف الخطابي تجاه الصين في الحملة الإنتخابية للجمهوريين لا سيما وانه يأتي لإرضاء الناخبين بعدما تبين أن أغلبية الأميركيين ينظرون للصين كخصم "وسارق للوظائف" وسبباً مباشراً لأزمتهم الإقتصادية.

ففي إستطلاع أجري مؤخراً قام به "صندوق مارشال الألماني التابع للولايات المتحدة"  تبين أن 63% من الأميركيين (مقابل 46% من الأوروبيين) يعتبرون ان الصين تشكل تهديدا للامن الإقتصادي للولايات المتحدة, في مقابل 31% منهم (مقابل 41% من الأوروبيين) إعتبروها فرصة إقتصادية. في حين أن 47% من الأميركيين ( مقابل 30% من الأوروبيين) ينظروا الى الصين كتهديد عسكري, في مقابل 49% من الأميركيين يرفضون ذلك ( مقابل 62% من الأوروبيين).
كل ذلك يؤكد أن حرب قائمة بين القوتين إلا أنها لا زالت بدون "رصاص", إلا أن تساؤلاً كبيراً يهيمن على عقول كثيريين: الى متى سيبقى "الرصاص" غائباً؟!!

حسام مطر