من أنا

صورتي
باحث وكاتب لبناني في العلاقات الدولية والدراسات السياسية.حائز على إجازتي حقوق وعلوم سياسية من الجامعة اللبنانية ودبلومي قانون عام وعلاقات دولية, وماستر علاقات دولية ودراسات أوروبية.حاصل على منحة تفوق من الجامعة اللبنانية لنيل شهادة الدكتوراه. حالياً يتابع دراسة الدكتوراه في العلاقات الدولية في جامعة براغ الدولية.

أمريكا والصين والصبح الأفريقي



ليس خافياً على أحد الصراع الدائر بشكل محموم بين إمبراطورية الحاضر القلقة وإمبراطورية المستقبل الطامحة , أي الولايات المتحدة الأميركية والصين, حتى أن كثيراً من سياسات الطرفين التي تدور خارج نطاق المواجهة المباشرة إنما ترتبط بحسابات هذا الصراع بشكل أو آخر. هذا التنافس والصراع ليس إلا تجسيداً للقاعدة التي تحكم علاقة "قوة الستاتسكو" الساعية لحماية النظام الدولي أو الأقليمي الذي صنعته كتجسيد لمصالحها, وبين "القوة الصاعدة" التي تسعى لتغيير النظام القائم بإعتباره يقيد تمددها ولا يعترف بمصالحها. وعليه لم يكن مفاجئاً تلميح كلينتون الأخير حول ضرورة أن تتوخى أفريقيا الحذر من "استعمار جديد" يتمثل في توسع الوجود الصيني في القارة السوداء, من دون الحاجة لذكر الصين بالإسم, ما إستوجب رداً صينيا سريعا عبر الناطق بإسم وزارة خارجيتها عن أن " الصين، حالها حال الدول الافريقية، كانت تاريخيا ضحية الاحتلال والقهر الاستعماري، وتعلم جيدا ماذا يعني الاستعمار".
ينطبق التنافس الاميركي- الصيني بشكل مثير على إحدى أشهر المقولات المتربطة بإفريقيا, "في كل صباح إفريقي, يستيقظ غزال وهو يدرك حاجته للجري بسرعة تتجاوز الأسد الأسرع وإلا سيقتل, وفي كل صباح يستيقظ أسد وهو يدرك وجوب أن يسبق الغزال الأبطأ وإلا سيموت جوعاً, إذاً لا يهم إن كنت أسداً أو غزالاً لأنه عندما تشرق الشمس من الأفضل لك أن تكون قد بدأت بالركض". تستفيق كلا القوتين يومياً وهما تدركان عمق وقوعهما في هذه المطاردة المرهقة والمصيرية, وإن كانت الولايات المتحدة تستشعر يوماً بعد يوم أنها "الغزال" بحسب هذه المقولة وهو موقع لم تألفه منذ زمن ويمنعها غرورها من الإقرار به. وعليه تسعى الولايات المتحدة للإفلات من هذه المطادرة عبر جملة إستراتيجيات وتكتيكات, أبرزها إقناع الجميع لا سيما في آسيا وأفريقيا أنهم "الغزال" الذي تطارده الصين "الأسد" وأنه لا مجال للنجاة إلا بالتكتل والتحالف معا تحت عباءة القيادة الأميركية. تدرك الصين هذه اللعبة الأميركية, ولذا تروج لمبدأ "الصعود السلمي" لبث الإطمئنان والثقة, إلا أنه في واقع التجربة التاريخية للقوى الصاعدة الساعية لكسر الوضع القائم "الستاتسكو" كان العنف والسعي للسيطرة والتمدد سمة ثابتة.
ليست إشارة كلينتون حول الصين و"الإستعمار الجديد"  إلا تكراراً  لمفردات مماثلة تزرعها الإدارة الأميركية بعناية في دول شرق آسيا لشيطنة الصين بإعتبارها التهديد الفتاك لسيادة تلك الدول ومصالحها الحيوية وأمنها الأقليمي , مستغلة في سبيل ذلك الصعود الصيني المذهل ,التمدد العسكري ,خلافات بحر الصين الجنوبي وحوادث التاريخ الغابر للأمبراطورية الصينية وطبيعة النظام الحاكم. إن التمعن في قراءة سياسات الولايات المتحدة تجاه القوى الإقليمية الأخرى المناوئة لواشنطن كإيران وروسيا يكشف نموذجاً مشابهاً لذلك المتبع بوجه الصين. إذ تجهد الولايات المتحدة في خلق ورعاية الخوف والهلع في المحيط الحيوي ومناطق الـتأثير والنفوذ الإستراتيجي لكل من إيران ( دول الخليج –  الشرق الأوسط - جمهوريات آسيا الوسطى) وروسيا ( شرق ووسط أوروبا – البلطيق – القوقاز – جمهوريات آسيا الوسطى). تشكل هذه السياسة جزء من إستراتيجية القوة الناعمة الأميركية والتي تحقق نجاحات متفاوتة تجاه هذه القوى الثلاث الصين, إيران وروسيا.
بالعودة الى الدور الصيني في افريقيا فهو دور إقتصادي بإمتياز - لا سيما بعد نهاية السبعينيات وضمور البعد الإيديولوجي في السياسة الخارجية - يسعى للحصول على الطاقة, موارد أولية, أراض زراعية وأسواق للإستثمار وتوظيف فوائض الأرباح وتصريف المنتجات. يتميز الصينيون بكونهم أكثر صراحةً ووضوحاً وبراغماتية من كل القوى الكبرى السابقة التي يصف القس ديسموند توتو سياستها تجاه القارة المضطهدة, قائلاً:"عندما قدمت الإرساليات إلى أفريقيا كان الإنجيل في أيديهم والأرض في أيدينا, ثم أخبرونا: أغمضوا أعينكم و لنصلي, وعندما فتحنا أعيننا بعد الصلاة وجدنا أننا أصبحنا نمتلك الإنجيل وهم يمتلكون الأرض". أما الصينيون فلا يجدون أي حرج في التصريح أن دورهم في إفريقيا هو إقتصادي بحت من دون تغليفه أو ستره بإدعاءات حقوق الإنسان, الدين , الديمقراطية أو التنمية, وعليه هم يتعاملون مع الوضع القائم  متخففين من أثقال المثالية.
إذاً تمتنع الصين نسبياً عن التورط في السياسة, فهو مجال مكلف لها, لذا تتعامل مع قوى الأمر الواقع غير مكترثة بمفردات الشرعية ولا تدعي ذلك. بناءً عليه, تفضل كثير من الأنظمة الأفريقية التعامل مع الصين على حساب المؤسسات الدولية والإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة التي تسعى لفرض شروط تتعدى بأشواط حقل الإقتصاد والتنمية تمكنها من الإمساك الكامل بالدولة والمجتمع الأفريقي بشكل مستدام. بالإضافة الى ذلك, تظهر الصين إستعداداً وقدرة مالية عالية لضخ الإستثمارات والأموال أكثر من القوى الدولية الأخرى, ولا تمانع في إرضاء البنى الموازية للسلطات الرسمية بما تيسر من "هبات".
 فيما تستفيد الصين من كون الدولة الأفريقية هي دولة ضعيفة بشكل عام يسودها الفساد وضعف آليات المحاسبة والشفافية, الى جانب وجود مناطق واسعة مهملة من قبل القوى الكبرى أو تتصف بتواجد محدود لها, مما يقلص فرص الإحتكاك المباشر, بعكس الشرق الأوسط. كما يلعب غياب العداء التاريخي بين الصين وأفريقيا دوراُ مهماً في قبول النفوذ الصيني بعكس القوى الغربية الأخرى. هذا المنهج "الإستعماري" الصيني تستخدمه القوى الغربية كذريعة للتحذير من الإنعكاسات السلبية على الديمقراطية وبناء الدولة في أفريقيا, متجاهلة دور شركاتها الكبرى في أبشع الممارسات النيوليبرالية في مناطق النفوذ الغربي في أفريقيا, من انتهاكات لحقوق العمال, دعم جماعات مسلحة, تدمير البنى البيئية وإستنزاف الموارد الطبيعية.
تكشف الارقام المتتالية عن عمق التوغل الصيني في أفريقيا وشدته وسرعة تصاعده. يذكر تقرير صادر عن "المجلس الصيني لتشجيع التجارة الدولية" أن 22% من الشركات الصينية التي تستثمر في الخارج كانت من حصة أفريقيا في عام 2010, مع ميل واضح لتزايد هذه النسبة. تجدر الإشارة أن أغلب هذه الشركات الصينية هي شركات مملوكة من الدولة وهو ما يشكل هاجساً إضافياً للولايات المتحدة. فيما تشير دراسة أخرى أن شركات الإعمار والإنشاءات الصينية قد جنت 20 مليار دولار في أفريقيا عام 2008, ووقعت عقوداً أخرى في ذات السنة بقيمة 40 مليار دولار, ويعتبر هذا القطاع بالإضافة الى قطاعي الزراعة والطاقة من أكبر مجالات الإستثمار الصينية في أفريقيا. وكمؤشر على نمو الإستثمار الصيني, قدرت مجموعة "ستاندرد بنك" الأفريقية أن تزيد نسبة هذه الإستثمارات بنسبة 70% بين 2009 الى 2015 لتبلغ قيمتها 50 مليار دولار سنوياً, فيما ستبلغ قيمة التجارة المتبادلة 300 مليار دولار. فيما يخلص المستشار الإقتصادي في البنك الدولي هاري برودمان,  في كتابه "طريق الحرير الأفريقي: الجبهة الإقتصادية الجديدة للصين والهند" الصادر عام 2007, الى ان هذه الزيادة هي جزء من توجه عالمي في النمو المتسارع للتجارة بين دول الجنوب النامية ( علاقة جنوب–جنوب).
نستخلص من ذلك, أن فرضية إمكان التعاون الأميركي-الصيني تتهاوى حدثاً بعد حدث, وأن التنافس والصراع ( لا الحرب) بين القوتين تتقدم بثبات. ثانياً, إن هذه المواجهة ستتمدد الى خارج النطاق الأسيوي في محاولة من كلا الطرفين للإفلات من قبضة الآخر والسعي الى تحقيق توازن قوة عبر الضغط على المنافس في نقاط ضعفه الجيو- سياسية. ثالثاً, إن النتيجتين السابقتين ستدفعان الصين الى تجاوز سياستها التقليدية في الشرق الأوسط القائمة على "رؤية نفقية" محصورة بالطاقة نحو إستراتيجية أكثر تدخلية وذات أبعاد إستراتيجية وامنية أشمل, وذلك في سبيل ممارسة ضغط موازي على الولايات المتحدة لإجبارها على الإنكفاء في المناطق ذات الأولوية بالنسبة للصين. أخيراً, يبقى تساؤل أساسي حول ما إذا كانت افريقيا ستدفع ثمن هذا التنافس على أرضها التي لم تلتئم جراحها بعد من ويلات الحقبة الإستعمارية؟
حسام محمد مطر
 22-6-2011
(نشر هذا المقال في جريدة الأخبار اللبنانية - 25 تموز 2011 - بعنوان,أفريقيا: الصين تصارع أميركا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق